كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


mardi 1 janvier 2008

رفضت التوقيع على عريضة الإحتجاج

من مذكرتي الشخصية 2008

"أستحي منك أيها الطالب لأنني لم أنجدك عندما استنجدت بي...علّمتك الصحافة و كسبت قوت أبنائي منك و عندما كتبت موضوعا أغلقوا جريدتك فطلبت النصرة من أستاذك ليضيف اسمه و توقيعه في عريضة الاحتجاج عسى أن تفتح الجريدة و تكسب أنت بدورك قوتك و لكنّي فضّلت قوتي على قوتك و تركتك عاطلا على العمل.

 أفهم الآن ما يقوله الناس في بلادنا: الخبزة مرّة".

(هدية الى السيد الكوني، خرّيج معهد الصحافة، المعني بهذا الموضوع، أذكر جيدا المشهد لكني نسيت الحقبة و هي تمتدّ من النصف الثاني للثمانينات أو بداية التسعينات)


 لا أحب عرائض الإحتجاج


(...) "إنتميت لكلية الآداب 9 افريل و هي في اوج حركيّتها النضالية في مطلع السّبعينات من القرن الماضي و من السنة الأولى من دراستي، أغلقت الجامعة لأكثر من شهر و أجبرنا على مغادرة المبيتات الجامعية و الغيت دورة جوان للإمتحانات التي تمّ تنظيمها في سبتمبر تحت حراسة امنية مشدّدة. واكبت كل هذه الأحداث و "عملت جو" بطريقة سلبية أي "إسمع و شوف و إبعد على الخطر" و حضرت جلسات عامّة منعشة و مفيدة يخطب فيها المناضل حمّة الهمامي و هو طالب في شعبة الآداب يسبقني بسنتين على ما اظن و اذكر جيّدا أنه حدّثنا يوما على إضرابات تجري في المعاهد الثانوية و كان يسمّيها "الحركة التلمذية".

و أذكر يوما أن طالبا مناضلا كنت أسمع تدخّلاته القاسية ضدّ السّلطة و كان زميلي في شعبة الفرنسية حتى أنه إعتبر الوزير السابق أحمد بن صالح "عميلا" لأنه غادر موقعه كزعيم نقابي و إلتحق بحكومة بورقيبة و أن برنامجه الإقتصادي "التعاضدي" يزكيه البنك الدولي و من وراء البنك الدولي الإمبريالية الأمريكية. لم تكن لي الحجج الكافية و لا الشجاعة لمعارضة هذا المعارض الشاب الذي كان يحظى بإشعاع في مجموعة درسنا لكني كنت أعرف بالفطرة أن بن صالح الذي جمع بين أبناء الفقراء و ابناء الميسورين في مبيت واحد و أنهى طابور التلاميذ الذي كنت اراه كل صباح يمشي على الأقدام من محل التضامن حيث يسكن ابناء الفقراء الى الليسي بمدينة باجة، لا يمكن أن يكون عميلا.

و كم كانت خيبة أمل زميلي المناضل عندما قدّم لي عريضة نسيت مضمونها لكني اعرف أنها بلغة أهلي "تهز للفينقة" (السجن)، فرفضت إضافة إسمي لشريط اسماء زملائي و أصدقائي. نعم كنت مواطنا خوّافا. و من مفارقة الأقدار أن الطالب المعارض الشّرس أصبح بعد سنوات من قيادات الشعبة المهنية للحزب الحاكم في مؤسسة عامّة. لا لوم و لا تثريب، هكذا تنضج افكارنا و تتطوّر شخصياتنا و تعدّل قيمنا في إنسجام سحري مع مصالحنا، فالتاريخ كما العلم "أخطاء تصحّح" حسب عبارة العالم الفيلسوف باشلار، الذي كان يذّكّرنا بها دوما الأستاذ عبد القادر بن شيخ، الأديب مؤلّف رواية "و نصيبي من الأفق" و صاحب اوّل دكتوراه تونسية في الإتصال.

(...)

العصى الغليظة.

أعرف أن الدولة تمتلك أيضا عصى غليظة طالت خيرة شبابنا منذ نهاية الستينات، عندما رفعوا عاليا سقف المواطنة فوقّعوا على عرائض سياسية، و كتبوا أدبا نضاليا و إنخرطوا في تنظيمات ممنوعة و تصدّروا الإجتماعات الإحتجاجية في بهو كليتنا ووزّعوا المناشير و الجرائد السرّية و إنتموا الى التنظيمات المحظورة و ساهموا في تنشيط الحياة الفكرية و السياسية التي إحتكرها الحزب الحاكم آنذاك، بأفكارهم و غضبهم و تمرّدهم و صمودهم.

قالوا بصوت عال أنه لا يمكن أن تعلّم الشباب و تمنع عنه التفكير، و أن العمل و المنزل و السيارة ليست الأفق الأرحب و دفعوا غاليا ثمن المواطنة في زمن الإستبداد، ففيهم من تمّ تجنيده و منهم من سجن و منهم من طرد من التعليم و منهم من هاجر للدراسة و النضال في الخارج.

 كل هذه التيارات كانت تستهويني "عن بعد" فكنت استمع الى خطبهم و اطالع مناشيرهم و لا أوقّع عرائضهم و لآ أنخرط في تنظيماتهم السرّية لأني كنت أنتمي الى حزب عتيد في تونس كأنه تبخّر بعد الثورة، زمن تكاثر بطولات وهمية لا توثّقها ذاكرة كبار الحومة و لا المناشير و صحف المعارضة المخزنة في المكتبات، و هو حزب "الخبزيست".

و تيار "الخبزيست" هو في حدود تواضع إطلاعي و إهتمامي بالسياسة دون الخوض في مغامراتها،على إمتداد نصف قرن تقريبا أعرض تيّار في تونس على إمتداد عشرات السنوات قبل الثورة الذين وضعوا في اولوياتهم الدراسة و العمل و الأسرة و البيت و بعض التفرهيد لمن إستطاع إليه سبيلا. الدّولة الأم الحنون، لا تغفر لأبنائها "تمرّدهم". فقررت أن لا أغضب الأم الحنون. ألم نترب على رضاية الوالدين؟"

المصدر:

"الدولة"... "أمّ حنون" جفّ ضرعها. (babnet.net)