كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


mardi 27 février 2024

السياسة في تونس وثالوث الفكر والفعل والدعاية

المهدي الجندوبي.

28-2-2024

لم ينشر خارج المدونة.

لماذا ضحلت السياسة في بلادنا إلى هذا الحد المستغرب وغير المعهود، ونحن نتوجّه نحو نهاية الثلث الأوّل من القرن الواحد والعشرين، فنكاد لا نجد رؤى وأفكارا ترسم المستقبل جديرة بالمتابعة والنقاش، ونكاد لا نلمس فعلا ينعكس على الواقع ويمسّ حياة المواطن اليومية، وهذان وجهان متلازمان في تفاعل مستمر، فالسياسة فكر سابق وعمل لاحق وبين المرحلتين دعاية واتصال لشرح الأهداف وتجميع الناس واقناعهم وتيسير تحوّل الأفكار والمشاريع إلى أرض الميدان أي حياة كل يوم، فتصبح السياسة أداة تطوير الواقع وهي مهمة من أنبل مهامها.

الفكر يبلور ويرسم الأهداف

غاب الفكر السياسي أو ضمر إلى أقصى حد، وغاب الفعل في الواقع أو هزل، وتورمت الوظيفة الدعائية وسيطرت على من يتعاطون السياسة، فكثّفوا من تصريحاتهم وصفحاتهم الاجتماعية الشخصية وفيديوهاتهم وتصوّروا أن ما نسميه "الظهور الإعلامي" هو كل السياسة، وانعكس انطباع خطير عند عامة الناس أن السياسة كما تصفها أغنية لطفي بوشناق "السياسة والكراسي"، بينما هي مجال المصير الجماعي، وإن لم تخل من الصراع والمنافسة، فهي تنشد التعاون وتحتاج إليه لتحوّل شتات الأفراد إلى كتلة أو كتل فاعلة تاريخيا، متضامنة ومتكاملة وناجعة.


السياسة، يرافقها الفعل الذي ينزّل الى الواقع الافكار والخطط ويترجم الاهداف ويتعامل مع الواقع في صلابته وتعقيداته ويقرا له ألف حساب ليجد سبيلا الى تحويل فكرة الى سلوك عملي فردي وجماعي وهذا الأهم. وقتها يتحقق الفعل في الواقع عبر التفكيرagir sur le reel

والفعل في الواقع له أوجه لا تنتهي فقد تكون منجزات طموحة في شكل سياسة تكوين وتشغيل الشباب أو طرقات وجسور تبنى، ومستشفيات تفتح، وأرقام إنتاج تنمّي الثروة وتفتح اسواقا جديدة، كما يمكن أن تكون أقل تواضعا لكنها ليست أفل نفعا، مثل طرقات نظيفة وأتربة لا تصب في مداخل الطرقات السيارة، وإشارات مرور يحترمها المواطن، وأشجار في الطريق العام يقع تعهدها بالزبيرة المنتظمة فتنتعش وتجمل، ونشاطات رياضية وثقافية في الأحياء الشعبية والقائمة يعرفها كل مواطن وكل مسؤول، وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.


الفكر والعمل وجهان لعملة واحدة


خير الدين التونسي 1867

وفي تونس عندنا تقاليد راسخة في الجمع بين الفكر والفعل. فالوزير المصلح خير الدين التونسي، جمع بين التفكير والعمل صلب الحكومة ونشر اقوم المسالك في معرفة احوال الممالك سنة 1867 ويرى المؤرخون أن هذا الكتاب من أول ثمار ما سيعرف بالنهضة التي تبلورت مقولاتها منتصف القرن التاسع عشر وأثرت في العمق على الفكر السياسي التونسي وعلى النخبة وأسلوب الحكم إلى اليوم.

وأسست حركة الشبابالتونسي Jeunes Tunisiens جريدة لوتونزيزيان le Tunisien ،التي بلورت اولى المطالب الوطنية مع باش حانبة و عبد الجليل زاوش ورفاقهم في، 1907وهي من اوّل الحركات السياسية في تونس المعاصرة.

جريدة التونسي الناطقة بالفرنسية 1907-1912


و نشر الشيخ عبدالعزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري في فرنسا سنة 1920 وهي سنة تأسيس الحزب، كتاب تونس الشهيدةTunisie Martyre ومن المعلوم ان مسودّة الكتاب كانت موضوع نقاش قبل النشر كوثيقة سياسية ضمن نواة الحزب الناشىء.

1920


افكار الطاهر الحداد نشرت كذلك، في شكل كتاب تحت مسمى "إمرأتنا في الشريعة و المجتمع" سنة1930 وتحولت بعض مضامينها، بعد ربع قرن الى قانون مع مجلة الأحوال الشخصية مطلع الاستقلال سنة 1956. هذا التكامل بين مرحلة تطبخ فيها الآراء ومرحلة سياسية تنفذ فيها، يتكرر في اكثر من بلد، إذ نشر الزعيم الروسي لينين كتابه المعروف "ما العمل؟" Que Faire سنة 1902 وانفجرت الثورة الروسية سنة 1917.

على مستوى أدبيات الدولة التونسية، أشرف الوزير أحمد بن صالح الذي تم تكليفه سنة 1960 بكتابة الدولة للتخطيط، على أول وثيقة ترسم فيها الدولة التونسية رؤية اقتصادية تنموية شاملة، تحت مسمى آفاق العشرية Perspectives Decennales De Developpement ، ورافقتها سلسلة من المخططات المتعاقبة إلى اليوم.

مصدر الصورة صفحة فايسبوك
 مجموعة Ahmed Ben Salah


في منتصف الستينات من القرن الماضي، بادرت مجموعة من الطلبة اليساريين بقيادة محمد الشرفي وأحمد السماوي وخميس الشماري ونور الدين بن خذر ورفاقهم، مطلع الستينات وهم يدرسون في باريس بين سن 20 و30 في اقصى الحالات، بتكوين مجموعة تحت مسمى Groupe d'études et d'action socialiste en Tunisie (GEAST) ، ونشر مجلة "آفاق" Perspectives ،سيكون لها دور رئيسي في بلورة الفكر اليساري التونسي الذي سيجتهد في نقد خيارات السلطة وممارساتها، وكأن "آفاق" الطلابية هي ردّ المعارضة الناشئة على "آفاق العشرية" الوثيقة الرسمية التي أعدّها أحمد بن صالح سنة 1961 .

في تيار الاسلام السياسي نجد توجّها مشابها إذ احتضنت مجلّة "المعرفة"(1974) ثم "المجتمع" في السبعينات من القرن العشرين، إرهاصات الفكر السياسي الديني في نسخته التونسية، بتزكية من السلطة في مرحلة أولى بهدف خلق موازنة مع التيارات اليسارية النشطة آنذاك، وتطوّرت التجربة في الثمانينات مع مجلّة 15/21، كفضاء للإسلاميين التقدّميين، التي أدارها الدكتور احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي. ونشر الجورشي سنة 1989 كتابا جماعيا بالاشتراك مع محمد القوماني وعبد العزيز التميمي، ينظّّّر لهذا الاتجاه تحت مسمى المقدمات النظرية للاسلاميين التقدميين.

ضحل الفكر السياسي وضمر الفعل


للعمل السياسي التونسي تقاليد راسخة في الربط بين الإجتهاد الفكري والعمل الحركي،وشملت مثل هذه التجارب شخصيات في حقبات تاريخية مختلفة وتنتمي إلى مدارس فكرية متنوّعة كما أنها شملت المؤسسة الحكومية والمبادرات المدنية.

يحق لكل متأمّل في هذه التجارب المتراكمة أن يستغرب ضياع هذه العادة الحميدة، فكيف تبخرت هذه التقاليد اليوم وأصبحت السياسة كلاما لا يسبقه التفكير ولا يرافقه الفعل. وتورّم دور الدعاية أو ما يسمّى بلغة العصر الاتصال والسياسة الإعلامية، فأصبحت هي الشغل الشاغل للسياسيين يلهثون وراء "الحضور الإعلامي"، بخطاب هزلت مضامينه وضمرت أفعاله ونتائجه.

ملاحظة: هذا المقال لا يتناول العلوم السياسية التونسية الحديثة، الذي نجد لها افضل النماذج في الكتب والمجلات المتخصصة والتي شهدت نقلة نوعية وكمية بعد الثورة سنة 2011 وتشهد على ذلك قوائم الكتب السياسية الغزيرة، لكنه يقتصر على اجتهادات السياسيين الذين يجمعون بين الفكر والعمل السياسي وهما متلازمان بالضرورة.