كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


mardi 10 mai 2005

عرض كتاب الصورة و التلفزيون بناء المعنى و صناعة المضمون

 


تأليف : د. عبد الله الزين الحيدري

الناشر : جامعة البحرين

2004

 

عرض: د.المهدي الجندوبي

 (لم ينشر)

تعرض الصورة  للمشاهدة المباشرة فيسقط الجميع في فخ الإدراك العفوي معتقدين أن معاني الصور واضحة و جلية لا تتطلب أكثر من مجرد إعمال الجهاز البصري. تلك هي ((أمية الصورة)) التي خصص لها د.عبد الله الحيدري كتابا نشرته حديثا جامعة البحرين يحمل عنوان الصورة و التلفزيون، بناء المعنى و صناعة المضمون (2004).

ينطلق الكتاب الذي ورد في 231 صفحة و أربعة فصول من حيرة و تساؤل المؤلف

 و هو إعلامي سابق و أستاذ باحث في الإعلام و يشرف مند أكثر من عشرة سنوات على تدريس التلفزيون، لماذا يتعامل المهنيون الإعلاميون الذين ينتجون الصور و كذلك الأساتذة الذين يشرفون على تدريس التلفزيون، مع الصورة مثل تعامل عامة الناس جاعلين إدراكها مقتصرا على المشاهدة العفوية و يصبون كل جهدهم على عمليات الإنتاج ذات البعد التقني مهملين إدراك الصورة في بعدها الرمزي.

 

 و يلاحظ الكاتب أن الجميع يقر بوجوب تملك القراءة و الكتابة كشرط مسبق للتعامل مع النص المكتوب و يدعو الى معاملة الصورة بصفة عامة و الصور التلفزيونية التي يركز عليها الكتاب بصفة أخص ،مثل النص المكتوب  لأنها    (( صناعة تتشكل في الذهن قبل أن تكون صناعة تحدثها  وسائط الكترونية. ص 6)) و تستند الى ((حقول معرفية تفسر فعل التصوير في علاقته بالتصور و التمثل لدى الإنسان. ص 5)).

 

يخصص الفصل الأول من الكتاب الى دراسة طبيعة  إدراك الصورة  فيكتشف القارئ عمق مفهوم الإدراك و أصنافه مثل الإدراك العفوي الذي تم تشخيص ملامحه عن طريق دراسة ميدانية أنجزها الكاتب أبرزت عفوية التعامل مع الصورة عند عامة الناس أي اقتناعهم بسهولة فهم الصور و عدم الحاجة الى آليات أخرى للإدراك سوى المشاهدة و اعتبارهم الصورة نسخة وفية للواقع و تضخم دور وسائل الإعلام كمصدر رئيسي للصور الرائجة في المجتمع و إهمال شبه مطلق في وعي العامة لأصناف الصور الأخرى المتوفرة خارج دورة الاتصال الجماهيري. و يخصص الفصل الأول جزءا هاما لتجاوز الإدراك العفوي عن طريق التعريف  بالجهد المعرفي حول الصورة، المنجز في حقول علمية مثل الفلسفة و علم النفس و النقد الأدبي، مخصصا قسما هاما لمصطلحي الصورة الذهنية و الصورة البلاغية.

ينفي الكاتب وجود فصل كامل بين الصورة و المكتوب ((فكل ما يتم إنتاجه و بثه يحكمه نظام العلامات...و العلامة رمزية كانت أم أيقونية تمثل مصدرا تنحدر منه المعاني. ص 30))، بل يرى على العكس من ذلك وجوب ((إدراك المصور في المكتوب و المقروء في المصور)) لأن كل من الصورة و المكتوب ((يلتقيان بالضرورة في انتمائهما إلى نظام من الرموز)) و ينتج عن ذلك ((أن ما يعتمد من أدوات لقراءة النص يتم اعتماده كذلك لقراءة الصورة. ص 40)).

 

يخصص الفصل الثاني لتفكيك مختلف آليات ((إنتاج المعاني)) انطلاقا من الصور مبرزا أن الصورة تنشأ نتيجة تقاطع وسائط تقنية و أخرى رمزية يمثلان نظامين متلازمين يجب التحكم فيهما للوصول الى ((القصد الاتصالي)). و يستعرض الكاتب بكثير من الدقة مختلف تقنيات صناعة الصورة التلفزيونية في مستوى الإنتاج و البث. كما يفصل تركيبة الرموز التي تتكون منها الصورة و دلالة كل رمز مثل الألوان و سلم اللقطات و الاستعارة و غيرها من الرموز الدالة.

 

و يفرد الكاتب الفصل الثالث كله لتقديم و مناقشة رمز من أهم الرموز الفاعلة في حقل الإنتاج التلفزيوني للصور، أي الأشكال التلفزيونية لمعالجة الخبر و يستعرض تعريفات الخبر المتداولة في الكتابات الأكاديمية متوقفا عند خاصية رئيسية تعرف الخبر بارتباطه بغير المألوف الى درجة الدعوة الى إهمال كل الأخبار التي لا تشتمل على مثل هذه الخاصية. و يرى د.عبد الله الحيدري عكس ذلك لأن فعل ((الإخبار في صيغته الحالية يعتني بشكل ملحوظ بالمألوف و بالسياق العادي للأحداث الى جانب اعتنائه باللامتوقع ...و تحتل صور الواقع العادي (المألوف) مساحات زمنية هامة في النشرات التلفزيونية ...مثل الاهتمام بالشغل و السكن و الصحة...ص 135)).و يرى الكاتب أن المعالجة المناسبة للخبر التي يكتسبها المهنيون نتيجة الدربة العلمية، هي التي تمكن من ((اشتقاق غير المألوف من المألوف)) و هكذا تتحول كل ((ظاهرة يومية بسيطة)) الى ((مادة إخبارية هامة)).

 

و يناقش الكاتب التداخل و بعض الخلط السائد بين مفاهيم متلازمة، لأن كل خبر((جوهر مركب))، مثل المعلومة و الرسالة و الحدث و ينبه الى أن الحدث لا يمكن الوصول إليه بالاعتماد على فهم سطح الخبر أو ما يسميه الكاتب ب ((الحقيقة الحاضرة)) و لكن عن طريق تحليل و معالجة الخبر للوصول الى ((الحقيقة الغائبة)). و كذلك الرسالة فهي مثل الحدث ثمرة استنتاج ينطلق من ظاهر الخبر وصولا الى ((شحنة المعاني المتضمنة في الخبر و التي تحدد جهات القصد الاتصالي...فالرسالة ليست خبرا أو معلومة أو حدثا، إنها البعد الذي يحتله الخبر في الفضاء الاجتماعي. ص 143)). و يعالج الجزء الأوفر من هذا الفصل تقنيات إعداد النشرة الإخبارية التلفزيونية و متطلبات ((الكتابة بالصورة)) و ((الكتابة الى الصورة)).

 

 

 

و يتناول الفصل الرابع باختصار ملامح التلفزيون الجديد و آفاقه، أي التلفزيون بعد ثورة الاندماج الرقمي التي مكنت من توحيد الوعاء مع تنوع الرموز فأصبح بالإمكان الجمع بين وسائط متنوعة كانت تحتاج في الماضي القريب إلى ركائز ذات طبيعة مختلفة لا يمكن الجمع بينها، مثل المكتوب و الصوتي و المرئي. كما يتناول هدا الفصل الموجه نحو رؤية لمستقبل التلفزيون بعض تبعات العولمة في مجال الإنتاج و البث التلفزيوني.

 

لا يخلو الكتاب من نفس جدالي لكاتب يقر منذ البداية أنه يشعر بالغربة المعرفية كلما تحدث مع أهل الاختصاص من أساتذة الإعلام و انه أكثر استئناسا بجوار علمي جمعه بأساتذة اللسانيات و الأدب، يجعل من قراءته أكثر من مجرد الاطلاع على مناقشة هادئة لقضايا علمية محورها الصورة التلفزيونية. و يحمل الكتاب سمات رحلة فكرية مضنية، لا يمكن إلا أن تشد الانتباه لما تحمله من جرأة و صدق و ابتعاد عن الطريق المعبدة التي تقدم معرفة جاهزة قابلة للحفظ. و جاء الكتاب ثريا بقضايا و مواقف علمية يسهل الاختلاف فيها مع الكاتب دون أن يفقد الكتاب طرافته.

 

هذا و قد أثرت الكتاب عدة أمثلة تطبيقية كان لها كبير الأثر في توضيح مقاصد الكاتب و لكن تبقى بعض الأجزاء عصية الفهم نظرا إلى ميلها للتجريد وافتقد الكتاب إلى نماذج من الصور يقوم الكاتب بشرحها على ضوء آليات التحليل التي يعرضها.

 

شخص الكتاب المرض و هو أمية الصورة و أعطى مفاتيح علمية لترشيد إدراك الصورة و لكنه يبقى مفتوحا لما يمكن أن ينتج عن صدور الكتاب: في أي اتجاه يجب تطوير مناهج الإعلام قصد تمكين منتجي صور الغد من ثقافة علمية تسند ثقافتهم المهنية في عملية إنتاج الصور. و إن كانت أقسام الإعلام أكثر اهتماما بالصورة فهل هذا يعني أن ثقافة الصورة لا تكتسب إلا في مؤسسات تكوين الإعلاميين؟ ما هو دور مختلف مستويات التكوين من الابتدائي الى الجامعة في مد المواطن بأدوات معرفية لإدراك الصورة التي أصبحت جزء طاغيا في الاستهلاك الثقافي (الأفلام و المسلسلات، الوقت المخصص لمشاهدة التلفزيون...)؟