المهدي الجندوبي
باب نات 30 جولية 2021
الرئيس قيس سعيد وسع من صلاحياته و توسع في
فهم البند 80 و لا غبار ان اقالة رئيس الحكومة ليست ضمن ما يتيحه الفصل 80 من
الدستور حسب قراءات كبار رجال القانون. لكن لماﺫا وجدت قرارات
الرئيس تأييدا و حماسا لدى قسم عريض من المواطنين و لماﺫا وجدت نفس
القرارات قبولا ﺣﺬرا من قطاع لا
يستهان به من النخب و لماﺫا انحصر مجال الرفض في أحزاب و شخصيات محدودة و لماﺫا غلب على الرفض
التعبير المعتدل و لماﺫا أطاع الأمن الجمهوري و الجيش الوطني تعليمات الرئيس؟
خطورة عبارة "غمة و تنحات"
من أول التصريحات
التي انتقدت قرارات الرئيس بوضوح ما قاله عالم القانون الأستاﺫ عياض بن عاشور اﻟﺬي يرى أن ما أقدم عليه الرئيس لا يسمح به الدستور
و لكنه بعد التحليل القانوني أضاف أن كل هذا جاء في ظرف تراكمت أخطاؤه على
امتداد العشرية وصفه باللغة العامية
"الناس فدت". و نجد عند المواطنين مثل هذه العبارة عندما يقولون "غمة و تنحات".
لا يجب الاستخفاف بمثل هذه
التعبيرات التي تبدو سطحية و انطباعية لكنها تترجم مزاجا عاما ينخرط ضمنه العمل
السياسي.
تخلصت تونس من الحكم الفردي بعد ثورة 2011 و كانت التحاليل تبرر
القطيعة بين القمة و القاعدة بحكم غياب الديمقراطية و عزلة الحاكم عن المحكوم و أﺫكر جيدا أن
السيد الطرهوني ضابط الأمن اﻟﺬي قاد الفرقة التي أوقفت أعضاء من أسرة الرئيس
السابق في المطار مساء 14 جانفي 2011 استعمل حرفيا في تصريح تلفزي، عبارة "غمة
و تنحات" و قال مبررا ما أقدم عليه "حبينا نعملو ايدين مع الشعب".
أي أن الضابط اﻟﺬي جبل على طاعة القائد يعي أن الظروف الحرجة تحتاج الى منطق غير
المنطق التراتبي التقليدي: حيث مزاج الشعب يكون الأمن.
السؤال المحير اﻟﺬي لا يجب أن يهرب منه كل عاقل: لماﺫا فشلت المنظومة الديمقراطية في خلق قنوات
تواصل و تفاهم و تناغم و تعاون كافية بين النخبة المنتخبة و الشرعية سواء التي
مسكت آليات السلطة أو التي لعبت دور المعارضة. و المجتمع. السلطة الديمقراطية تجد نفسها مجددا
بعد عشر سنوات من انهيار النظام السابق سنة 2011 في وضعية مشابهة من الإنفصام بين
السلطة الشرعية و البلد الواقعي و هي ثنائية أثارها المرحوم أحمد المستيري ﻣﻨﺫ مطلع السبعينات من القرن الماضي مستعملا
العبارة الفرنسية pays legal et
pays reel.
الشعارات ليست مفاهيم تفسيرية
يسهل التخلص بسرعة من المشاكل عن طريق شماعات سهلة الترويج عبر
بلاتوهات التلفزات و الاﺫاعات و صفحات الفايسبوك، كأن نقول حكمت النهضة و هي أكثر
مسؤولية من غيرها. هذا المستوى من
التحليل السياسي لازم لكنه غير كاف و أرى من الأفضل على مستوى الاجتهاد الفكري
الفردي و الجماعي، تجاوز تحميل المسؤوليات و التعزير و اﻟﺘﺫنيب الى مستوى فهم كل
أشكال و أسباب هذا الفشل
الديمقراطي الجماعي.
من أخطر الأخطاء التي عشناها بعد ثورة
2010/2011 كان التسرع في فهم ايجابيات و سلبيات النظام السابق اﻟﺬي
حكم تونس على امتداد ستون سنة تقريبا و الأسباب الحقيقية لفشله و طبيعة تناقضاته و سيطر رجال القانون و المناضلون على الساحة
العامة و غابت مقاربات اخرى كانت يمكن أن تساهم بأكثر شمولية في فهم المشاكل و ارتقت أحيانا بعض الشعارات الى مستوى مفاهيم
لا تناقش. و كل تشخيص قاصر و فهم أحادي للمشكل يؤدي الى حلول غير كافية. فهل المشكلة تقتصر على القوانين المنظمة للحياة
العامة بكل مستوياتها و أعلاها الدستور أو هي أكثر شمولية و تتعلق بالثقافة و
مفهوم السلطة و طبيعة العلاقات و سيكولوجية القائد و المواطن و كلها قضايا تحتاج
الى الدرس و التدقيق.
و اليوم و نحن في منعرج جديد هل سندخل
الحقبة القادمة بعقلية ما بعد الثورة و بأحكام فردية و متسرعة يفرضها ميزان القوى
الجديد و باستخلاصات متسرعة ستؤدي لا محالة الى قرارات و حلول قد يكون لها بريق
الجدة لكننا نكتشف بعد عشرية أننا من جديد نراكم الفشل تلو الفشل؟.
كثيرا ما اختلط الخطاب الدعائي و منطق شد انتباه الناخب و التأثير على مزاجه، مع
التحاليل التي تسعى الى الفهم السليم للوصول الى الحلول المناسبة. خاصة و أن
الخطاب السياسي أصبح مجاله الطبيعي ثقافة البلاتوهات الاعلامية التي تمسرح الصراع
السياسي في شكل نرجسيات متورمة و متصارعة، حولت الشخصيات و البرامج السياسية الى مسلسلات لا تنتهي من
الخصام و العراك، هذا اضافة الى ما
تأتي به الفيديوهات و صفحات الفايسبوك من سيل جارف
من الكلام و الدعابة الفكهة و المرة و مزيج خطير من الأخبار الزائفة و الصحيحة و
الحقائق الأحادية و المطلقة و وابل من الشتيمة و البغض الجماعي و كلها تحولت الى
ثقافة سياسية تصنع الأراء و المواقف و تحدد المزاج العام.
فشل ديمقراطي جماعي
نعم هناك فشل ديمقراطي صريح يحتاج الى فهم
عميق لأشكاله و أسبابه، و صاعقة 25 جويلية 2021 لم تضع حدا لتجربة ناجحة و مجلس
النواب سقط في عيون الناس قبل تعليق نشاطه رسميا و شهادات البرلمانيين كثيرة و
عبارة "ترﺫيل" العمل البرلماني التي كنا نسمعها يوميا هي في حد ﺫاتها كافية للدلالة
على أن الرئيس قيس سعيد لم يوجه رصاصة الرحمة الى البرلمان لكنه أقبر جثة متعفنة
لا تستحق دمعة واحدة، و ﻟﺬلك لم
يتجند أنصار النهضة للمرابطة أمام الباب الحديدي للمجلس اﻟﺬي أغلق
في وجه الشخصية الثانية في الدولة. انتماؤهم للنهضة كمناضلين و أنصار لم يحجب عنهم
مشاركة مزاج أبناء وطنهم في هذا الرفض
الكامل للكاريكاتير الديمقراطي اﻟﺬي سقط فيه المجلس، مع استثناء الشخصيات التي
لم تساهم في الترﺫيل لكنها ضحيته بحكم الصورة السلبية الجماعية، و هذه ميزة فاضلة للمجتمع التونسي اﻟﺬي
يزاوج بين الوحدة و الاختلاف و درس للقادة لأن القواعد و الأنصار ليست
"ملكية" مضمونة.
مكسب حرية التفكير و التعبير
و بعد الإقرار بالفشل الديمقراطي هل الحل الطبيعي هو الحكم الفردي أو
النظام الدكتاتوري؟ و "العصا تجيب الطاعة" كما يقولون. هذه أسوء الفرضيات لسبب بسيط أن تونس لها
تجربة سياسية خبرت فيها مساوي الانفراد بالحكم و الاشتراطات التاريخية التي تسمح
بحكم ديكتاتوري غير متوفرة منها أن طاعة الأمن و الجيش في تونس مشروطة بالشرعية و
بمزاج قبول الشعب للحاكم. فالرئيس قيس سعيد هو جزء هام من الشرعية السياسية دخل
قرطاج بمساندة عريضة و هو في خلاف مع شرعية نيابية و لكنه جزء من السلطة الشرعية
توسعت على حساب سلطة أخرى و هذه جزئيات لا تهم سوى النخبة.
شعبية الرئيس و تلقي الشارع لقراراته بعفوية و حماس هو صمام الأمان
الوحيد له، لكنه غدا سيواجه تقلبات المزاج العام و هو في الخط الأول من القيادة و
قدرة السلطة التي سينشئها على مواجهة المشاكل الحقيقية هي التي ستحافظ له على المساندة الشعبية أو العكس ستحرمه
منها. و المساندة الشعبية شرط طاعة المؤسسة الأمنية و العسكرية و تعاون بقية المؤسسات.
هذا اضافة الى أن تونس في محيط دولي سيتعامل بكل ﺣﺫر و رفض لكل انجراف نحو
الدكتاتورية و التمسك المبدئي باستقلالية القرار الوطني لا يجب أن يحجب عنا مدى
الضغوط التي يقدر عليها محيطنا .
لكن الأهم أن التونسي و ان سئم من النسخة التونسية المشوهة للديمقراطية العاجزة التي أفرزتها العشرية الماضية متمسك بحرية التفكير و التعبير و هي الدينامو المحرك لكل التجارب و النظم الديمقراطية التي تتعدد أشكالها و صياغاتها، لكن روحها واحدة. و أثناء العشرية الماضية خبر المواطن أساليب احتجاج كثيرة لن يقع التنازل عنها، و منحته التقنيات الحديثة للاتصال أدوات ناجعة و سهلة الاستعمال لنشر احتجاجاته و تنظيم تحركاته و آخر مثال على ﺫلك تحركات 25 جويلية 2021 التي تبرأت منها كل الأحزاب و المنظمات تقريبا لكنها جندت ما رأيناه من المواطنين الغاضبين. و في وضع التوتر الاجتماعي المجموعات القليلة الفاعلة أكثر نجاعة و قدرة على التأثير، من آلاف المواطنين المسالمين.
لن يقدر حاكم مستقبلا على الانفراد بالحكم في تونس و الحل الأسلم هو خلق ظروف توافق ديمقراطي
جديد يسمح للرئيس قيس سعيد و هو في موقع قوة بتجميع كل القوى الوطنية لرسم هندسة
منظومة سياسية جديدة تستفيد من أخطاء الماضي و تتجاوزها و تمكن تونس من الجمع بين
شرطين متلازمين: ديمقراطية لا تقصي و تسمح بمشاركة طيف عريض من المواطنين من جهة،
و سلطة عامة فاعلة و ناجعة و ناجزة و مقتدرة من جهة أخرى.
الكثير من ناقدي
المنظومة الحالية اتفقوا أن العقلية التي
سادت صياغتها سنة 2014 ، حرصت على تجنيب تونس رجوع الحكم الفردي ووضعت كل المحاذير
ﻟﺬلك، لكنها لم تنجح في افراز سلطة عامة قادرة على
ترجمة شرعيتها الى قرارات و منجزات و مكاسب فعلية و ملموسة تنهض بالمواطن و بظروف
عيشه. فبقي المواطن ينتظر بين حملة انتخابية و أخرى و يتابع البرامج السياسية التعددية
بشغف، و كأنه يسمع جعجعة و لا يرى طحينا.
غلب سحر القول على
ديمقراطيتنا حتى أصبح الكلام و التراشق بالكلام هو كل السياسة و تناسينا أن أصل
السياسة هو الفعل فبقيت المشاكل عالقة بل تفاقمت. و اليوم "طارت السكرة و
حضرت المداينية".
الحكمة الشعبية "طيحة بتكربيصة"
نعم خسرنا منظومة ديمقراطية بالية، فلا
نخسر وطنا جميلا يجمعنا و لا نفرط في مستقبل توافقي يسمح للجميع بالعيش الكريم. من
يريد خوض المعارك و تجنيد الأنصار يمكنه تأجيل ﺫلك و له وقت
طويل عندما ينسد الأفق
تماما.
الحكمة الشعبية
تقول "نعملو طيحة بتكربيصة"، أجبر الرئيس أمام "الخطر الداهم"
على قرارات مؤلمة لا تحترم شكليا المنظومة
المتوافق عليها ﻣﻨﺫ
2014 و أظنه نظرا لضيق الوقت و
صعوبة الوضع سيجبر على قرارات أخرى جدالية من جهة تطابقها مع الشكل القانوني، لكن هذه التعقيدات القانونية لا يمكن أن تقف
حجرة عثرة أمام كل الأبناء الأبرار لهذا الوطن، المنتصرين و المنهزمين، ليجددوا عقد
الثقة بينهم، و ينزعوا الى التعاون مجددا،
فالضرورة لها أحكامها و تونس تستحق الصبر
و كبح النرجسات و "تقديم الأهم على المهم"، أما المغامرات و
المخاطر فهي تهدد الجميع، لا قدر الله.
الرئيس قيس سعيد
بحاجة الى التواضع و هو منتصر و مقدم على صعوبات لا تحصى و لا تعد و لا أتحدث عن
التواضع الانساني و الاجتماعي لأنه سمة تميزه حسب شهادات من يعرفونه عن قرب لكن
التواضع الفكري و الانفتاح الكافي على كل المقاربات و الاجتهادات و عليه أن ينتبه
أن الأفكار الجديدة التي يحملها يجب أن يقتنع بها غيره لأن تطبيقها و نجاحها مشروط
بقبول و اقتناع الآلاف من المسؤولين و المواطنين، و هذا في حد ﺫاته جهد استثنائي بحاجة الى صبر ووقت. أما الطاعة التي تسمح
بها الأوامر و التراتبية فلن تكون سوى طلاء شكليا سريع الاندثار.
أما خصومه فهم
بحاجة الى فهم أعمق لمزاج شعبهم و انتظاراته
و أتعابه و نفاﺫ صبره على وعود تسرع القادة من كل الأحزاب برميها جزافا في
حملاتهم الانتخابية و برامجهم على الورق فأوصلتهم الى الحكم و عجزوا على ﺗﻨﻔﻴﺬها.
طريق الديمقراطية
ليس طريقا سيارة، و بعض المنعطفات و
المسالك غير المعبدة قد تكون أيضا موصلة. الديمقراطية ليست نادي اصدقاء و لكنها
أسلوب عمل جماعي لفرقاء ضمن وطن واحد و نظام حياة يراوح بين "زمن للصراع و
زمن آخر للتعاون".
الرابط الأصلي:
تونس بين
ديمقراطية عاجزة و دكتاتورية مستحيلة (babnet.net)