كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


mercredi 2 février 2022

"تراجيديا" تونس...من كاتب القصة؟

موقع رأي اليوم:2-2-2022

د.المهدي الجندوبي، أستاذ صحافة متقاعد

نقلت بعض وسائل الاعلام أن الرئيس د.المنصف المرزوقي، شبه الوضع التونسي ب"التراجيديا " و  قال أن "مهمة كل مؤسسات الوطن... وقف هذه التراجيديا الكبرى التي حلت بتونس".

لم أصوت يوما للدكتور المنصف المرزوقي، لكني منتبه الى ما يقوله و يفعله و متعلم من ثمرات جهده الفكري سابقا و حاضرا، منذ رأيته لأول مرة بقامته النحيفة و هو يتقد حماسا و يلقي محاضرة في منتصف الثمانينات آخر عهد الزعيم الحبيب بورقيبة مساهما كغيره من المثقفين و المناضلين بمختلف مشاربهم في الرقعة الضيقة التي تبقت آنذاك لكل مواطن يرفض وضعية الرعية و يطمح للمشاركة في الحياة العامة، و كان ﺫلك في مقر جريدة الطريق الجديد التي كان يصدرها الحزب الشيوعي التونسي و كنت حينها مساعدا شابا ضمن أساتذة الجامعة التونسية، و منذ قرأت بتمعن أول كتاباته السياسية التي جمعها سنة 1986 في كتاب تحت عنوان دع وطني يستيقظ و أذكر جيدا فصلا خصصه لما "أسماه القلاع الفارغة" أي هذه المؤسسات الرسمية العديدة التي تلمع بأسمائها و تزخر بإمكانياتها  و هي عاجزة مثل الطواحين التي "لا يخرج منها طحين". وقتها كانت كتب السياسة في تونس تعد على الأصابع و تبدل الحال الآن مع سيل المذكرات السياسية و كتب التحاليل و الدراسات و المحاولات السياسية التي ازدهر سوقها بعد الثورة على طوال العشرية الماضية.

فمهما كانت درجة الانسجام أو الاختلاف مع المواقف السياسة للدكتور المنصف المرزوقي و مهما كانت حدة الصراعات التي خاضها و الجدالات العديدة التي رافقت أفكاره و تصريحاته، فالرئيس المنصف المرزوقي شخصية فكرية و سياسية و مساره الفكري تعكسه كتاباته الصحفية التي رافقت تجربته النضالية في الحياة العامة من البداية و توثقها مجلدات جريدة الرأي التي بعثها المرحوم حسيب بن عمار و متنفس الفكر الحر وقتها في نهاية السبعينات من القرن الماضي، و كتبه السياسية العديدة التي لم ينقطع صدورها من نهاية الثمانينات الى اليوم، أما مساره النضالي و السياسي فمراحله معلومة عند من يهتمون بالشأن العام في تونس منذ رابطة حقوق الانسان في التسعينات و "مجلس الحريات" مع أستاذ التاريخ و العلامة محمد الطالبي وعمر المستيري  و توفيق بن بريك و سهام بن سدرين و غيرهم، خط النار الأول آنذاك، في مواجهة المرحوم الرئيس بن علي الذي كنت شخصيا وقتها من أنصاره الصامتين، و بعدها تأسيس حزب المؤتمر ثم رئاسة الجمهورية بانتخابات غير مباشرة، ضمن المجلس التأسيسي في 2012 و اليوم و هو يسعى الى اعادة تشكيل "جبهة ديمقراطية" تقاوم "انقلاب 25 جويلية".

من هو المنقلب دستوريا على الآخر؟

من كاتب قصة  "تراجيديا" تونس 2022؟ و هذه "التراجيديا" هل فعلا انطلق فصلها الأول في 25 جويلية 2021 (يوليو/تموز)  أي عندما أقدم الرئيس سعيد على تجميد عمل مجلس النواب و إقالة الحكومة بعد توسعه في فهم بند من بنود الدستور التونسي و بعد تردد منﺫ وصوله الرئاسة سنة 2019  و أمام ما أسماه "الخطر الداهم" الذي تزامن مع تعطل جدي في عمل الحكومة التي كان يرأسها الأستاذ هشام المشيشي و هو رئيس الحكومة التاسع في عشر سنوات، بسبب وزراء جدد نالوا ثقة مجلس النواب و رفض الرئيس التوقيع على تسميتهم معتبرا أن بعضهم تطاله شبهة فساد معتمدا تقارير لجان من غير محاكمة قضائية، و بسبب استفحال عدوى كوفيد19 و نقص فادح في تزويد المستشفيات بالأكسيجين و تعطل وصول جرعات التلقيح و الاحتقان الاجتماعي الذي دفع آلاف الشبان للنزول من غير أي دعوة حزبية الى الشوارع يوم 25 جويلية و هو يوم عطلة في تونس تخليدا لإعلان الجمهورية في تونس سنة 1957 ، أم هل أن "25 جويلية" هي من أواخر فصول "التراجيديا" التونسية، لأن الفصل الأول يجب ان نبحث عنه جماعيا، في التاريخ المعاصر لبلدنا الأمين و بأمانة فكرية و شجاعة تجعل كل واحد يقر بأخطائه رغم حسن النوايا؟

لنقل ما نشاء في "أخطاء الرئيس قيس سعيد" و أسلوبه في الحكم و تفسيره المفرط لمفهوم "الخطر الداهم" الذي تحول الى "خطر دائم"، فهذا لن يخفي أن المسؤولية الأكبر في الوضع الحالي التونسي، لا يمكن أن يتحملها الرئيس سعيد لأنه موضوعيا و بالحجج الثابتة، لم يدخل حلبة السياسة الفعلية الا "سويعات" قبيل انتخابات 2019  و حضوره في الشأن العام كان ضمن ما نسميه في الجامعة "الانفتاح على المجتمع" و ما يسمونه في المشرق "خدمة المجتمع" أي ان يتجاوز الاستاذ الجامعي مجال تحركه الأكاديمي الضيق و يلقي محاضرات و يتعاون مع جمعيات و مؤسسات او ينشر مقالات معتمدا على ما راكمه من معرفة لينشرها و يبسطها للعموم.

بل ان الرئيس سعيد اعتلى سدة الحكم الفعلية في 25 جويلة  (يوليو/تموز) 2021 أي حوالي  سنتين بعد وصوله الديمقراطي للحكم بقاعدة تصويتية عريضة و بمساندة معلنة و مطلقة ممن هم الآن يمثلون قسما واسعا من معارضيه. فقبل 25 جويلية (يوليو/تموز) كانت السلطة موزعة على "رئاسات ثلاث" حسب دستور 2014 الذي أوقف الرئيس سعيد العمل ببعض أقسامه، و رئاسة الجمهورية الأكثر اعتبارا بروتوكوليا، كانت فعليا الأقل سلطة.

هل انقلبوا عليه منﺫ دخوله القصر لمحاصرته في مربعه الشرفي او انقلب عليهم بعد أن نفﺫ صبره في اقناعهم أنه يدعو الى "ثورة ثانية ضمن القانون" أعلن عنها في أول خطاب أمام مجلس النواب؟، تلك قصة اخرى و ترف و تحذلق سياسي ينعش من  له "دودة السياسة"، أي الشغف المفرط  كما نقول في تونس، لكنه لا يوفر العيش الكريم للمواطن و لا يفتح المستوصفات في الأحياء الشعبية  و لا المكتبات العمومية، و لا يضاعف من قدراتنا العلاجية على مقاومة ادمان المخدرات الذي استفحل في وسط المراهقين، و لا يمنح الشغل للشباب العاطل عن العمل و لا يغير وجهة آلاف الشباب المغامرين بحياتهم عبر البحر الابيض المتوسط "حارقين" في قوارب الموت، من ارض تونس الجميلة الى المجهول، و هذه ليست مسائل ثانوية أو اعلاء للبطن على حساب العقل، بل هي جوهر السياسة و مضمون كل برامج السياسيين في العالم  و هي ارقى شكل لخدمة المواطن و تحقيق رفاهته.

 

فلماذا انحصرت السياسة في بلادنا على سؤال من يسوس و نسينا السؤال الأخطر: لماذا نحكم؟. مهما اختلفت الأنظمة فرفع الأتربة من الشوارع و احترام الضوء الأحمر عند قيادة السيارة و توفير الأدوية و مقاومة الكلاب السائبة ليلا في الشوارع و تنظيم العطلة الصيفية لأبناء الفقراء و التنشيط الثقافي في الأحياء المعوزة، و كلها خدمات في الحد الأدنى لكل مجتمع حديث، أهملت أو تعطلت في تونس و قد يستخف بها كبار السياسيين الﺫين ينشغلون بهندسة ماكينة الدولة و يتخاصمون أشهر على تسمية شخصية واحدة من مئات الشخصيات في أي هيكل من هياكل الهيئات الدستورية العديدة التي وضعناها على الورق و احترنا في تسييرها و هﺫا ﺫكرا  لا حصرا،  لكنها تشغل المواطن في حياته اليومية.

الرئيس سعيد قالها بصراحة: لست "زاهدا في الدولة"

لماذا نجح الأستاذ قيس سعيد حيث فشلت سلسلة جهابذة السياسة التونسية من منافسيه،  في استقطاب اهتمام التونسيين بشخصيته التي اكتشفها المواطنون عبر مداخلاته التلفزية  و الاذاعية لشرح القانون كلما جرى اشكال منذ 2011 و حرصه على عكس غيره بالتمسك بالنطق باللغة الفصيحة و كأنه يحمي صرحا ثقافيا مهددا بالانهيار، و بقيمه التي ذكرها مريدوه من طلبته أكثر مما تحدث عنها هو مباشرة  و بطريقة تفكيره التي جمعت بين المتناقضات اذ اطمئن المحافظون الى كلامه عن "المساواة في  الارث" بين المرأة و الرجل و هي قضية أثيرت آخر عهدة الرئيس المرحوم الباجي قائد السبسي، و عدم معارضته لعقاب الاعدام و ارتاح الحداثيون لمقولته "الدولة لا دين لها"، حسم بها جدل مدنية الدولة المتجدد في تونس و التخوفات من الردة الفكرية في مسالة علمانية الدولة؟.

لنفترض جدلا أن 25 جويلة (يوليو/تموز) هي شهادة وفاة "الديمقراطية التونسية" التي كان جل من يعارضون السلطة اليوم و على طوال السنوات الفارطة يتحدث يوميا عن "ترﺫيل السياسة " و يندد بوصول "الكناترية" للبرلمان (أي تجار السوق السوداء)، و مضمون ولادة "مشروع حكم فردي"، فمن هو المسؤول الأول عن "هذا التقهقر" الديمقراطي  régression démocratique؟ قطعا لن يكون الرئيس سعيد و ان أخطأ و ان راودته سرا "أحلام السلطة" و هو القائل أكثر من مرة قبل 25 جويلة (يوليو/تموز): ان كنت زاهدا في الدنيا فلست "زاهدا في الدولة".

بديهية لكنها تستحق الاعلان بوضوح: المسؤولية الاولى "لتراجيديا" تونس تعود الى كل شخصية و كل جماعة منظمة أو حزب كانت اللاعب الرئيسي أو ضمن فريق اللاعبين على ميدان تونس السياسي قبل الثورة و بعدها و على طوال العشرية الى حدود نزول الرئيس قيس سعيد في 25 جولية 2021 الى ارض الميدان بعد بقائه سنتين على مقاعد انتظار "السلطة الفعلية".

كيف نكون شعبا متضامنا،  اذا عجزنا على اقتسام الفقر في انتظار اقتسام الخير؟

مسؤولية أنصار النظام السابق و كنت فكريا من ضمنهم، أن تركوا النظام يتآكل بل صفقوا لهذيانه و غروره الى أن حانت لحظة الموت و من عطايا التاريخ الجميلة لتونس ان "يموت النظام" مع موت الشاب البوعزيزي في 17 ديسمبر 2010 دفاعا عن لقمة العيش و الكرامة،  فصمت الجميع لأنهم أدركوا أنهم كانوا يناصرون مومياء ماتت كما مات سيدنا سليمان حسب القصة القرآنية، و لم ينتبه الى موته أقرب رعاياه الا بعد ان نخرت السوس العصى التي كان يتكئها، و كان "يحكمهم ميتا".

مسؤولية معارضي بن على الذين، كما قال الأستاذ راشد الغنوشي رئيس" النهضة " أهم حزب تونسي بعد حزب الدستور/التجمع ، و رئيس مجلس النواب،  كانوا يحلمون بفتح دكان "ففتح الله عليهم السوق كلها"،  و صعدوا سدة الحكم بكل مستوياته من رئاسة حكومة و نيابات برلمان و بلديات و مستشارين و مديرين في الوزارات وولاة و معتمدين و اعضاء "هيئات دستورية" الله وحده يعلم بمنحها ( و قد تصل المنحة المضافة للراتب لعضو من أعضاء الهيئة الدستورية ، راتب استاذ جامعي)،و بنزينها المجاني و هو من مكملات الرواتب لكبار القوم و مكيفات مكاتبها و لا أخالها تبعد عن مفهوم "القلاع الفارغة" الذي تحدث عنه في التسعينات  د. المنصف المرزوقي. أموال "القلاع الفارغة" و سياراتها الادارية الفخمة‘ كانت يمكن أن توظف لترميم المدارس و المراكز الصحية المتداعية و لدعم برامج رعاية الطفولة و الشباب.

و تصدر رجال السياسة البرامج الاخبارية و حلبات البلاتوهات و هو مصطلح جديد في السياسة التونسية اذ اصبح "البلاتو" هو البديل عن السياسة في الميدان و هذه اشكالية اخرى تحتاج الى ندوة علمية في حد ذاتها حول الفرق بين الفعل السياسي و الاتصال السياسي و هو البعد التفسيري و الترويجي للعمل السياسي، اذ اصبحت السياسة مرادفا للكلام و تبخرت الأفعال و الانجازات الا من البرامج الانتخابية، و أصبح الاتصال السياسي و الحضور الاعلامي، هو كل السياسة، فغيبنا الواقع و تلهينا بصورة الواقع مثل اهل الكهف.

مسؤولية كل مواطن و أنا واحد منهم استفاد من ضعف الدولة/ السلطة/الحكومة و استمتع بزيادات افتكها ضمن "نضالات نقابية" مشروعة وتحت ضغط  تفاقم غلاء الأسعار متناسيا او غير مكترث  بآلاف الشباب العاطل عن العمل و أصحاب شهائد يجوبون الشوارع و كان يمكن اعادة توجيه  موارد الدولة الزهيدة، لتعزيز برامج  عقود تكوين/تشغيل بمنح لا تكون راتبا مناسبا لكنها لا تقطع الأمل عن الشاب و تقربه من حلم التشغيل المستقر. أستسمحكم معلومة تتعلق بجراية تقاعدي الشخصية برتبة أستاﺫ مساعد في الجامعة، التي زادت في العشرية الأخيرة قيمتها ب 800 د شهريا. لي كل الأسباب على عكس غيري، لأشكر حكومات الثورة المتعاقبة و قياداتنا النقابية، على هذه الهدية الشخصية لكني ارى أنه من الأفضل ان تكون راتب بداية لخريج من خريجي الجامعة. فكيف نكون شعبا اذا عجزنا على اقتسام الفقر في انتظار اقتسام الخير؟

"أخطا راسي و اضرب"

طبعا أعلم الحجج الدامغة: كيف نقلل من الرواتب و نترك رجال الأعمال لا يدفعون ضرائب بل أكثر من هذا بعضهم تحصل على قروض ميسرة لدفع الاستثمار ثم نسي ارجاعها الى أصحابها اي المواطن التونسي دافع الضرائب عبر بوابة الحكومة المؤتمنة وقتيا على مصالح الجميع،  و كيف نترك من "تواطؤوا على النهب" منذ عقود في تكديس الثروة على حساب الأجير الذي تعرف الدولة جيدا مداخيله المحدودة...و كل هذا صحيح لأن حكمتنا التونسية و هي جزء من سلوكنا الاجتماعي و السياسي: "أخطا راسي و اضرب".

و لا أحدثكم عن نظرية الحماص (دكاكين فواكه في كل حي شعبي شبيهة بالبرادات في الخليج) الذي يكتفي بباتيندة سنوية (اتاوة ضرائب سنوية مخفضة ) و يتجاوز دخله المعلّم أو الأستاذ الذي تقتطع الضرائب حوالي 15 في المائة من راتبه. أما المحامون و الأطباء فحدث و لا حرج. فقد عجز الوزير الأول الهادي نويرة رحمه الله، في السبعينات من القرن الماضي، و هو المعروف بصرامته على اجبار الأطباء على كتابة وصفاتهم على دفتر وصفات كان عليهم استخراجه مرقما من المصالح المالية و ذلك بهدف تدقيق اتاوة تدفع على كل وصفة علاج.

 

تطول القائمة في تحديد مسؤولية كتاب سيناريو "تراجيديا تونس"، و الرئيس قيس سعيد انضم مؤخرا الى كتاب السيناريو الجماعي بل اصبح الكاتب الرئيسي للفصل الأخير او قبل الأخير لسلسلة مجيدة من جهابذة السياسة التونسية و سبق ان كتبت في الصحافة المحلية أنه سيواجه أصعب عدو و هو "الغرور" الفكري فرغم تواضعه الانساني و الاجتماعي الﺫي يشهد به كل من يعرفونه عن قرب، فجل تصريحاته العلنية بعد وصوله الى الحكم تحمل قناعات سياسية مغلفة بمثالية أخلاقية لا تترك مجالا للمناقشة الهادئة و الناقدة خاصة و أن الوثائق المكتوبة القابلة للتدقيق و التمحيص و الرد فكرة تقارع فكرة نادرة اﻨ يكاد فكر الرئيس ينحصر في فيديوهات و بيانات الرئاسة و بعض "الشراح" من أنصاره و يصعب لكل من يريد خارج كل الأحكام المسبقة و التحامل، أن يطالع و يناقش آراء الرئيس و برامجه أن يجد المادة الرسمية الدسمة و المتاحة ليتشكل موقف فكري رصين ، فهل مقاومة "مشروع نظامه" كما يدعو لها شق من الرأي العام بزعامة من فشلوا في السلطة و في المعارضة منذ عقود ستكون "الهابي انتد" المنتظر؟

من المسؤول عن حالة "القرف الديمقراطي"؟

بصدق ليست لي اجابة لكن ما أراه الآن بتواضع أولوية المرحلة، ليس" مقاومة سعيد" لكن مقاومة السوسة التي تنخر الفكر السياسي المعاصر في تونس في نسخته الرائجة عبر سيل التصريحات و المواقف الاعلامية و خطب الفيديوهات التي لا نجد لها نسخة ورقية لنص مكتوب واضح المضمون  و ملزم لا في موقع رئاسة الحكومة و لا موقع رئاسة الجمهورية،  و كتابات فاسبوك المتسرعة التي ارتقت بالانفعالية الى مرتبة التحليل بدعوى التفاعلية و المشاركة في الشأن العام فاصبح الفكر السياسي مرادفا للثرثرة و "دقان الحنك" و الأهواء و كل الهدف السياسي اقتصر او يكاد على "ولي هذا" و "كسر هذا" و "نحي حزب و حط حزيب".

 و لا اتحدث عن الكتب او المقالات و التقارير الجادة التي قليلا ما تعتمد في الجدل العام. كيف يمكن لمثل هذه البيئة الفكرية السياسية التي تسبح فيها السلطة و المعارضة، أن تنتج غير اعادة انتاج الفشل؟ و من بركات الثورة أن بلادنا تقريبا شهدت من كان في السلطة يصبح معارضا و من كان في المعارضة يصبح سلطة، دالة بدالة و يندر من بقي خارج السلطة باستثناء ايقونة اليسار المناضل حمة الهمامي و قلة تحصى على اصابع اليد.

من كتب سيناريو تراجيديا تونس، كاتب جماعي أخطأ و أصاب، و التراجيديا  لم تنطلق في 25 جويلية لأن ما نعيشه اليوم واحد من فصولها الأخيرة. 

دخول الرئيس قيس سعيد و هو اليوم صاحب شرعية الحكم مجبرا  الى الحلبة السياسية مع اعتبار كل التحفظ حول تغييب الشرعيات الدستورية الأخرى و هذا جدل نخبة، ما كان ليقع بالمرة لو لم تنجح "قيادات الثورة" الشرعية المتعاقبة أو من ظنوا أنهم قياداتها  بعد 2011،  الى جر التونسيين الذين لم يشارك جلهم في الثورة لكنهم سعدوا بها و احتضنوها، الى هذا "القرف الديمقراطي" الذي فتح الطريق معبدا الى الرئيس قيس سعيد  و قادوا من غير قصد جل التونسيين أو شريحة عريضة منهم من المواطن البسيط الى قيادات مختلف آليات الدولة الى انتظار "المنقذ".

الديمقراطية في نسختها التونسية فقدت جابيتها

الديمقراطية كانت حلم النخب التونسية منﺬ الستينات بعد تحقق الحلم الأكبر و هو الاستقلال نهاية الخمسينات من القرن الماضي على يد الزعيم بورقيبة و رفاقه من الحركة الوطنية،  و ﺬاقت نخبة الشباب التي فتح لها الاستقلال المدارس و الجامعات  و منعها من ممارسة حرية التعبير و التنظم، من كل المشارب السجون و المهجر و الهرسلة الاجتماعية و المهنية لأنها مارست مواطنتها و تعاطت المحظور أي ببساطة مارست السياسة خارج الخطوط الرسمية شديدة التضييق وقتها.

لكن الديمقراطية في نسختها التونسية بعد ثورة 2010 فقدت جاﺬبيتها و من يرى عكس ﺫلك فعليه ان يقتع الناس الﺫين فتنوا بالبرامج التلفزية السياسية مع بدايات الثورة و اصطفوا بفخر في طوابير صناديق الاقتراع و اقتنعوا ان الانتخابات ارقى شكل لفرز الأفضل للقيادة لكنهم بقوا ينتظرون من يصلح أوضاعهم و كل مرة يأملون في شخص أو حزب يصوتون له بكثافة فصوتوا للنهضة و للمؤتمر و للنداء و سرعان ما تتبخرت اوهامهم، فزعماؤهم يغوصون في مباحثات كواليس السياسة المتشعبة و يخوضون معارك بلاتوهات التلفزات و الاﺫاعات تاركين صغار القوم مع قمامتهم و بطالتهم وضنك حياتهم اليومي و عويلهم الفايسبوكي.

هل يمكن لكل فاعل سياسيي شارك بشجاعة في تطوير الحياة التونسية منﺬ نهاية الستينات و عاش كل المراحل التي مرت بها تونس و عاين هﺬا البون المدهش بين حجم التضحيات الماضية و الأحلام الجماعية و النتيجة الضحلة التي وصلنا اليها جماعيا بعد وضع دستور ديمقراطي و انتخابات متتالية لم نشهد مثلها في تعدد الوجوه و البرامج رغم كل ما يشوب كل انتخابات في نقص و تجاوزات و تجريح، أن يدعو مجددا الناس لمقاومة السلطة من غير جرد أمين و عميق لأسباب الفشل الديمقراطي التونسي و أبرز وجوهه أن السلطة قبل الثورة و بعدها بقيت في قطيعة مع القاعدة الشعبية التي تخطب ودها في الانتخابات و تدير لها الظهر فور تسلم مقاليد الحكم عاجزة على الفعل لتنفيذ ما وعدت به و لا حتى للإنصات لأوجاع الناس و ضنك حياتهم اليومي. من يضمن أن تضحيات اليوم لن تذهب مجددا سدى مثل تضحيات الأمس؟

هل الجدل السياسي التونسي و الأولويات التي يطرحها على الراي العام سلطة و معارضة قادر اليوم على تشخيص الداء و تقديم الدواء دون السقوط في الشماعات التقليدية التي نلوكها بسهولة في تصريحاتنا و مناقشاتنا المتسرعة و الملتهبة،  فمرة نتهم النظام السابق المستبد أي نظام حزب الدستور الذي أنشاه العالم المفكر عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 و حوله الزعيم بورقيبة رحمه الله الى أداة مقاومة الاستعمار ثم أداة حكم و تنمية اجتماعية قبل ان يتحول الى اداة انفراد بالحكم، و تم حله قضائيا سنة 2011،  و مرة الأزلام أي من نجى من أنصار الرئيس بن علي و بقي له بعض الحضور الاعلامي، و مرة حزب النهضة الذي "حكم عشر سنوات" و مرة الرئيس الباجي قائد السبسي و حلم التوريث بعد 2014، و مرة النخبة جمعاء حتى ان عبارة الأستاذ جمادي الجبالي و هو زعيم من زعماء حزب النهضة و رئيس حكومة سابق، "نكبتنا في نخبتنا" اصبحت متداولة بين جد و هزل، و اليوم شماعة السلطة مجسمة في الرئيس قيس سعيد و الحكومة الحالية التي ينتظر منها في الموازنة المالية لسنة 2022 أن تصلح كل ما أفرط فيها سابقوها على طوال العشرية السابقة، و المثل التونسي يقول: "الي يبقى يدي الكراء".

للتوسع يمكن الاطلاع على:

تونس بين ديمقراطية عاجزة و دكتاتورية مستحيلة (babnet.net)

المصدر:

د. المهدي الجندوبي: “تراجيديا” تونس… من كاتب القصة؟ | رأي اليوم (raialyoum.com) 


كتبت هذا المقال لمناقشة موقف الرئيس د. المنصف المرزوقي و بعد اطلاعي على المادة التالية:

 

منصف المرزوقي - Moncef Marzouki 

١٨ س  · 

طبعا كل تضامني مع العميد عبد الرزاق الكيلاني بعد احالته على القضاء العسكري من طرف المنقلب الرئيس غير الشرعي للجمهورية التونسية.

طبعا تضامني مع كل الذين سيلاحقهم المنقلب لهذا السبب أو ذاك فالحبل على الجرار

المهمّ رسالتي للقضاء العسكري وللمؤسسة العسكرية مرة أخرى

هذا الرجل المريض بصدد تدمير الدولة وتمزيق وحدة الشعب وإحالة خيرة الوطنيين أمام قضاء مدني وعسكري يسعى لتوريطه في هذيانه.

مهمة كل مؤسسات الوطن على رأسها المؤسسة العسكرية والأمنية وقف هذه التراجيديا الكبرى التي حلت بتونس

ولا بد لليل أن ينجلي

 

منصف المرزوقي - Moncef Marzouki | Facebook

 

 

منصف المرزوقي - Moncef Marzouki

8 يناير الساعة 5:07 م  ·

بيان إلى الشعب التونسي

لم يعد يخفى حتى على مناصريه أن انقلاب 25 جويلية كان دواء أمرّ من الداء.

عوض أن يأتي للبلاد بالحلول التي كانت بأمسّ الحاجة إليها، دفع بمشاكلها إلى مستوى من الخطورة غير مسبوق حيث:

انجرفت البلاد في أقل من نصف سنة إلى انقسام الشعب وانهيار الاقتصاد وتهديد القضاء وعودة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وتردّي صورة تونس في العالم وخاصة إلى تفاقم أزمة نفسية ومعنوية لم يعرف لها الشعب مثيلا من قبل.

يخطئ من يتصوّر أن مثل هذا الوضع لن يزداد سوءا وذلك نظرا للمرض العقلي الواضح عند المنقلب ولعجزه الأوضح عن إدارة شؤون الدولة.

الأخطر من كل هذا أن الوقت جد ّمحسوب حيث يجب اسقاط الانقلاب قبل يوم 25 جولية على أبعد تقدير وإلا سندخل في نفق مظلم لا نعرف متى نخرج منه.

فإذا تمّ في هذا التاريخ المقرّر الاستفتاء على دستور استبدادي جاهز ومعلوم النتيجة سلفا كما هو الحال في كل الدكتاتوريا....

 وإذا انطلق '' الأخ القائد'' بعده مباشرة في تغيير القانون الانتخابي للانتقال من النظام الجمهوري الديمقراطي إلى نظام جماهيري استبدادي فوضوي،

فإن الدولة ستنهار والشعب سيغرق في المعارك السياسية في الوقت الذي سيتواصل فيه توقف المكنة الاقتصادية وحتى انهيارها هي الأخرى لتنهار معها الطبقة الوسطى ويتفاقم فقر الطبقة المسحوقة وربما لنعرف الجوع ولنا في لبنان مثال وإنذار جدّي.

لذلك لا خيار لشعبنا حتى لا يصل نقطة اللاّعودة فقرا واستبدادا وفوضى غير انهاء رئاسة شخص غير سويّ عقليا خرج فجأة من المجهول لتدمير الدولة والمجتمع كما خرج من المجهول فيروس كورونا لبث المرض والموت.

إنها مهمة ومسؤولية المؤسسة العسكرية والأمنية فهما في حلّ قانونيا وأخلاقيا ووطنيا من إطاعة منقلب خرج على الشرعية خاصة وهو بصدد تدمير الدولة تحت أعينهما، ناهيك عن التفويت في السيادة الوطنية بالتبعية المفضوحة لدول حاربت ثورتنا وتريد تقزيمنا وجعلنا في مستواها السياسي المتخلّف.

إنها مهمة ومسؤولية المؤسسة القضائية أكثر من وقت مضى دفاعا عن شرفها المهني وعن قانون يريده المنقلب خاتما في اصبعه.

إنها مهمة ومسؤولية المؤسسة الإعلامية بإنارة الشعب وخاصة المخدوعين المصرّين على مواصلة التعلّق بالسراب وانتظار الحليب من  الثور لا يعلمون أنهم أولى ضحايا الانقلاب.

إنها مسؤولية الطبقة السياسية والنخبة المثقفة برصّ الصفوف والتعلّم من أخطاء الماضي وطيّ صفحة خلافات تبقى ثانوية بالمقارنة مع الأخطار الجدّية على دولتنا التي يمثلها تواصل حكم المنقلب.

لكن أكبر قسط من المسؤولية هي مسؤولية كل المواطنين وخاصة الشباب وقد ارتهن الانقلاب مستقبلهم بإيقاف المكنة الاقتصادية والشروع في تفكيك الدولة مما يعني تبخّر كل آمالهم في العيش الكريم.

 ومن ثمّ، على أكبر عدد ممكن من التونسيين والتونسيات بمناسبة ذكرى انتصار الشعب على الدكتاتورية المشاركة بقوة في مظاهرات العاصمة وفي كل أرجاء الوطن.

 لتكن هذه الاحتجاجات الشعبية انطلاق عصيان مدني يستعمل كل وسائل المقاومة المدنية السلمية لإجبار المنقلب على الاستقالة وفرض الشرعية والنظام الديمقراطي وعلوية الدستور وعودة السيادة الحقيقية للشعب عبر تنظيم انتخابات حرة ونزيهة رئاسية وتشريعية تعيد لتونس الاستقرار والاستثمار والازدهار.

فإلى إنقاذ وطنكم أيها التونسيون والتونسيات لكي تعود تونس وطنا لشعب من المواطنين تخدمهم دولة قانون ومؤسسات...

لكي تصبح الوطن الذي نهرب إليه لا الوطن الذي نهرب منه.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار الذين كانت دمائهم الزكية ثمن حريتنا والذين يحرّم علينا أن تذهب تضحياتهم عبثا.

تحيا تونس

منصف المرزوقي - Moncef Marzouki | Facebook