بقلم الدكتور المهدي الجندوبي الأستاذ بمعهد الصحافة و علوم الاخبار بتونس
الجزيرة (يومية سعودية)، 17-12-1982
كثيرا ما يلاحظ قارئ الجرائد اليومية مجموعة من
الاحرف قد لا يعيرها أية أهمية تتصدّر الخبر مثل ( و .ا.س) ( و . ا .خ) – ( ق
. ن .أ) (ا.ف.ب) .. او غيرها و تمثل هذه الرموز على التوالي علامات
تجارية لوكالة الانباء السعودية -
وكالة انباء الخليج و وكالة الانباء القطرية – وكالة فرانس برس الفرنسية.
و مختلف هذه الوكالات و غيرها مؤسسات إعلامية تلعب دورا أساسيا في عملية جمع الاخبار و
انتقالها سواء على المستوى الوطني أو على المستوى العالمي و عندما تضع جريدة ما رمزا من هذه الرموز قبل تقديم الخبر فهي في
الحقيقة تعلن ان الخبر المنشور قد ورد عليها عن طريق الوكالة المذكورة و
هذا الإعلان يشبه العبارة التجارية التي نشاهدها على مختلف البضائع صنع ب made in
ماهي وظائف الوكالة في الجهاز الإعلامي المحلي
و العالمي ؟
ماهي صفات اهم الوكالات المتواجدة على الساحة
الدولية ؟
وأين وصلت محاولات العالم الثالث لإنشاء وكالة بديلة ؟
هذه مجموعة من الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في
نطاق سلسلة من ثلاث مقالات.
اذا
كان من الصّعب تحديد بصفة تشمل كل الجرائد حجم الاخبار التي ترد على الجريدة من
وكالات الانباء اذ تختلف النسب حسب الجريدة
و حسب اليوم، فانه من المؤكد انه
في الكثير من الحالات فان نسبة اخبار الوكالات التي تنشرها الجرائد تتجاوز حجم
المقالات التي تنتجها هذه الجرائد نفسها.
و هنا نذكر بسرعة ان المادّة الإعلامية التي
تصل القارئ عن طريق الجريدة متنوعة
المصادر فهناك ما يحرّره الصحفيون القارون
و غيرهم بالمؤسسة من تعاليق و
تحقيقات و استجوابات الخ ....وهو ما يمكن ان نسميه انتاجا ذاتيا يختلف حجمه و
نوعيته حسب المؤسسة و هذا النوع من الإنتاج هو في الحقيقة الذي يكوّن طرافه
للجريدة و هو ما يميّزها عن الجرائد
المنافسة الأخرى.
و المصدر الثاني الأساسي يتمثل في مجموعة من المقالات قد يتراوح عددها بين 50 و 300 و اكثر تصل يوميا الى الجريدة عن طريق الوكالات مقابل
اشتراك سنوي عادة ما يكون مرتفع الثمن. فعلى
الجريدة ان تختار حسب اهتمامات
قرائها و اختياراتها السياسية ما تريد ان تنشره و تترك الباقي و لا يفوتنا ان نذكّر
ان هذا الرصيد الذي يأتي عن طريق الوكالات
يباع أيضا الى جرائد و مؤسسات إعلامية أخرى( محطات الإذاعة و التلفزيون )، أي انه
رصيد مشترك لمختلف الأجهزة المشتركة في الخدمة الاعلامية للوكالة.
و هذا القسط المشترك من المادة الإعلامية هو
الذي يسّبب ما يلاحظه المواطن في العديد
من الأحيان من تطابق حرفي لبعض الاخبار يسمعها في الحصة الإخبارية بالإذاعة
و تتلى عليه بالتلفزيون و يطالعها في
الصحف في عدة جرائد يومية.
هذا طبعا اذا لم يقع ما يسميه المهنيون بعملية
معالجة الخبر أي إعادة صياغته و اثرائه و تكييفه و ذ لك حسب المؤسسة الإعلامية و
خاصيات جمهورها. و للإذاعة و الجريدة حق
التصرف في الخبر الذي يصلها عن طريق
الوكالة اذ يعتبر هذا الخبر مبدئيا
مادة نصف خام، شريطة ان لا يشوّه الخبر و يقلب الحقائق . و علينا ان نذكر في هذا
المستوى انه ليست هناك قوانين صريحة تحدّد مقدار هذه الحرية ( أي حرية التصرف في
خبر الوكالة ) و لكن هناك مجموعة من
التقاليد التي تفرض احترام محتوى الخبر
اذا ما ذكرت الوكالة كمصدر عن طريق ايراد الرموز التجارية للوكالة.
علاقة غير مباشرة بالجمهور
تمكننا عملية مقارنة الوكالة بجريدة يومية مثلا
من ابراز خاصيات الوكالة. هناك طبعا اهداف مشتركة لكلّ المؤسسات الإعلامية تتمثل
في تجميع الاخبار و نشرها و لكن تختلف طرق انجاز هذه الأهداف حسب نوعية المؤسسة.
فنوعية علاقة الوكالة بالجمهور العريض تختلف عن
العلاقة السائدة بين جريدة يومية و بين الجمهور.
فالقارئ يشتري الجريدة بصفة منتظمة و الحصول
عليها سهل نسبيا اذ لكل جريدة شبكة من الموزعين .
نستطيع ان ننعت هذه العلاقة بين القارئ و
الجريدة بانها مباشرة اضافة الى هذا يستطيع القارئ ان يتعرّف على اهم عناصر اسرة التحرير و على
اهتماماتهم الفكرية انطلاقا من مطالعة
منتظمة لما يحرّرونه . و للقارئ إمكانية مراسلة المؤسسة او أي صحفي من اسرة
التحرير لمناقشة مقال او للتعبير عن راي معين وقد تنشر رسالته او قد يتحصل على رد
بالجريدة في ركن القرّاء.
و لكن مختلف هذه العلاقات لا
توجد بين الوكالة و الجمهور و هذا لا يعني
ان الوكالة ليس لها علاقة مع
الجمهور العريض و لكن نوعية علاقتها خاصة و يمكننا ان ننعتها بانها غير مباشرة . فالوكالة تخاطبك و لكن عن طريق المذيع او عن طرق جريدة (الجزيرة)
او (الاهرام ) اذ لا يمكنك ان
تشتري عندما تريد ذلك اخبار الوكالة
السعودية ليوم امس او اخبار وكالة الانباء الفرنسية مثلا.
يعني هذا ان هناك وسيط بين القارئ و بين الوكالة
و قد يتدخّل هذا الوسيط بصفة بارزة
في حالة إعادة صياغة الخبر و لكنه يلاحظ
في الكثير من الحالات ان الجرائد لاتغيّر شيئا يذكر في هذه الاخبار و تسلّمها
للقارئ مثلما تسلمتها من الوكالة مع إضافة بعض العناوين و بعض عناصر الربط .
و في نطاق هذه العلاقة الخاصة بين الجمهور و
الوكالة نذكر أيضا ان القارئ لا يمكنه ان
يفرّق بين انتاج مختلف الصحفيين
الذين يعملون بالوكالة. فالجريدة او
الإذاعة قد تذكر الوكالة عندما تأخذ منها خبرا و لكنها لا تذكر اسم الصحفي الذي حرّر
الخبر بالوكالة . و لذلك يقال عادة ان صحافة الوكالة هي صحافة الخفاء و هي لا تمكّن
من يمتهنها من الشهرة التي قد يتمتع بها
زملاؤهم في الصحافة المكتوبة الأخرى و خاصة في التلفزيون.
فالإنتاج الصحفي بالوكالة مسؤولية جماعية، يذوب الجهد الفردي في الجهد
الجماعي ليبني ما يسمى بالصورة التجارية للوكالة و بمصداقية المؤسسة و هي قدرة المؤسسة على الحصول على احترام
حرفائه لما تقدّمه من اخبار (صحة الاخبار،
كثافة المعلومات، عدم الانحياز لتيّار سياسي معيّن )
هذا بالنسبة لما اسميناه بالجمهور العريض. و
لكن لا يجب ان يخفى علينا انّ في هذا الجمهور عناصر لها مراكز قيادية في المجتمع و هي صاحبة
القرار السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و هذه العناصر المتكوّنة من أعضاء
الحكومة و كبار الموظفين في الدولة و اقطاب الأحزاب و المؤسسات المختلفة و
كبار المسؤولين في القطاع الاقتصادي لها حاجة ملحّة في الاطلاع على اخبار العالم و
القطر بسرعة و بدون وسيط.
لذلك
فكثيرا ما يشترك اهل القرار للحصول على الاخبار مباشرة لدى الوكالات على
شاكلة المؤسسات الإعلامية. ففي هذه الحالة نستطيع ان نقول ان بين الوكالات أصحاب
القرار علاقة مباشرة تميّزهم عن العامة.
سرعة التغطية
اذا
ما واصلنا عملية المقارنة و تناولنا البعد
الزمني نلاحظ ان الجرائد هي مطبوعات دورية أي انها تبرز في السوق في فترات
معينة و منتظمة فتكون يومية او
أسبوعية او نصف شهرية او شهرية.
و هذا يعني ان المؤسسة الصحفية و بالتالي الصحفي
يجمع الاخبار و لا يمكن ان ينشرها الا عندما تطبع جريدته اما بالنسبة لصحفي يعمل بجريدة
يومية اذا ما عاين حادث سيارة مثلا،
فهو سيقوم بتجميع مختلف المعلومات المتوفّرة عن هذا الحادث و يحرر مقالا واحدا لتغطية
الحدث و لا يصل الى القارئ الا في صبيحة يوم غد، اما صحفي الوكالة فهو لا يخضع
لهذه الضغوط الزمنية بل على العكس عليه ان يخبر عن الحادث مباشرة بعد وقوعه (
بضعة ثوان او دقائق ) من دون ان ينتظر معلومات أخرى .
و
اذا ما تحصّل فيما بعد على معلومات أخرى ، فعليه ان يوردها في خبر آخر و هكذا دواليك و هذا ما يسمى في
صحافة الوكالة بالإرسال المقطعي للخبر، أي ان الخبر الواحد يقدّم في عدة مقاطع او
أجزاء و يسمى كل جزء برقية لا يتجاوز حجمها
الأقصى مائتين او مائتين و خمسين كلمة . اما حجمها الأدنى فقد لا يتجاوز مجموعة من الكلمات مثل (
اندلعت الحرب بين ايران و العراق ) فهذه اخبار مقتضبة تتبعها عادة سلسلة أخرى من
الاخبار المفصّلة .
و
تمثل سرعة التغطية عنصرا هاما في سلوك الوكالة اذ تحاول كل وكالة ان تقلل قدر
المستطاع الفارق الزمني بين وقوع الحدث ووصول الخبر.
لكن هذه المنافسة التي تحتد
في بعض الأحيان، لا تقتصر على سرعة
ايراد الخبر فقط فصحّة الخبر اهم من سرعة
وصوله وقد تؤدي أحيانا السّرعة الى بث اخبار خاطئة و هذا ما لا يتسامح فيه الحرفاء
مع الوكالات فتصوروا الوضع المحرج لمحطة
إذاعية تبث مباشرة خبرا بعد بضع ثوان من
وصوله عن طريق الوكالة وتجبر فيما بعد على تكذيبه ولذلك هناك بعض المسؤولين الحذرين
الذين يفضّلون الاعتماد على وكالات مختلفة في نفس الوقت فكلما انفردت وكالة كبرى بخبر يفضّل
هؤلاء المسؤولين الانتظار بضع ثوان او دقائق للاطلاع على ما قد تذكره
الوكالات الأخرى حول الموضوع نفسه فاذا وقع نوع من الاجماع بين
الوكالات او على الاقل اتفاق بين وكالتين حول خبر ما يعتبرون ان للخبر ضمانات
الصحة الكافية و يقررون الاعتماد عليه.
التلسكربتر او المبرقة الكاتبة
لنسال الان عن القنوات التي تستعملها الوكالة
لضمان وصول انتاجها لمختلف الحرفاء فقد تعوّد المواطن على التعامل مع الأجهزة
الإعلامية الأخرى بحكم اتصاله المباشر بها.
فهو ينصت للإذاعة و يتمثل الخيط الرابط بينه
وبين المحطة الاذاعية في جهاز يلتقط
ذبذبات كهربائية هوائية وينتج صوتا و بالنسبة للصحافة المكتوبة يشتري
القارئ ورقا مطبوعا من انتاج الجريدة.
اما الوكالة فهي تبث انتاجها عن طريق أجهزة
التلسكربتر او آلة مبرقة .. و للتبسيط نستطيع ان نشبّه الاشتراك في وكالة مثل
الاشتراك في الهاتف مع إضافة بعض الخاصيات. فالهاتف هو آلة متصلة عن طريق الاسلاك ( او بدون اسلاك ) بمجموعة من الآلات الأخرى تمكّن مستعمليها من
تبادل اخبار شفوية اما التلسكربتر فيمدّ مستعمله بوثيقة مرقونة على لفافة من ورق، كذلك الهاتف جهاز تقبّل و بث في نفس الوقت، أما التلسكربتر
فهو في العادة جهاز تقبّل فقط اذ ان الوكالة هي التي تزوّد الحريف بالمعلومات. و
يمكن ان نقول أيضا في هذه المقارنة ان الهاتف يربطني مع مشترك اخر حسب ارادتي و في
الوقت الذي اختاره للمكالمة اما التلسكربتر فهو يربطني بالوكالة فقط و أخيرا فان التسعيرة التي ادفعها
مقابل اشتراكي في الهاتف تختلف حسب استعمالي لهذه الالة. اما التسعيرة التي يدفعها
المشترك للوكالة فهي تقرر بالجملة حسب عقد يربط الوكالة بحريفها و هي تسعيرة مقابل
خدمات إعلامية اما التسعيرة التي تدفع
للبريد هي مقابل استعمال جهاز الهاتف و الأسلاك و ليس مقابل نوعية الاخبار التي
تلتقط او تبث.
ولا يجب الخلط بين جهاز التلسكربتر و جهاز
التلكس بالرغم من القرابة الكبيرة بين الجهازين فالتلكس يشبه في استعماله كثيرا
الهاتف ما عدا انه جهاز بث و تقبل كتابي و ليس شفويا اما التلسكربتر فهو مرتبط
بصفة متواصلة مع الوكالة التي تضعه تحت
تصرّف مشتركيها.
يمكن ان نقول بإيجاز
ان الوكالة هي بائع بالجملة للأخبار و ان حرفاءها
هم الجرائد و محطات الإذاعة و التلفزيون و لكن الوكالة لا تقتصر على عملية
البيع لذا هي تنتج نسبة هامة مما تبيعه من اخبار حتى و ان كانت تقتني بدورها أخبارا من وكالات أخرى، فهي في الحقيقة مصنع اعلامي باتم
معنى الكلمة.
الجزء الثاني و الثالث:
خمس وكالات صحفية عالمية تسيطرعلى الساحة الإعلامية الدولية