كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


vendredi 31 décembre 1982

الوكالات العالمية...محور جدل على المستوى الدولي.


المهدي الجندوبي

الجزيرة (يومية سعودية)، 31-12-1982.

الوكالة الصحفية بائع الاخبار بالجملة وأهم حرفائها الجرائد و محطات الإذاعة والتلفزيون وهي صاحبة قسط مهم من الاخبار التي تصل الجمهور عن طريق الجرائد ووسائل الاعلام الأخرى. وتسيطر خمس وكالات عالمية بحكم تقاليدها الإعلامية بضخامة امكانياتها المادية والبشرية في الساحة الدولية. هذا أهم ما قدّم في مقالين نشرا سابقا وفي خاتمة هذه السلسلة نتعرّض إلى النّقد الموجّه إلى الوكالات العالمية وبعض محاولات دول العالم الثالث للخروج من هذه السيطرة الإعلامية. تولّد كل سيطرة سواء كانت سياسية اقتصادية أو فكرية، ردود فعل مختلفة وقد تكون متناقضة في الكثير من الأحيان إذ يذهب من الاعجاب المفرط الذي يشعر به الطرف المسيطر عليه إزاء الطرف المسيطر إلى النقمة والتذمّر فالثورة.

وقد لوحظ هذا السلوك في العديد من الحالات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها عدة شعوب أثناء الثلاثة قرون الأخيرة التي توسّع فيها الاستعمار الغربي بعد الثورة الصناعية ونتج عن هذا التغلغل الاستعماري الغربي تمركز مؤسسات اقتصادية قويّة تستغل المواد الخام والأرض والقوى البشرية المتوفّرة في بلدان افريقيا واسيا والوطن العربي المستضعفة آنذاك.

ولكن هذا التغلغل الاقتصادي، سرعان ما تبعه تمركز عسكري وسياسي وتكفّلت كذلك المؤسسات الايديولوجية بتنظيم استعمار الفكر (تمركز البعثات التبشيرية المسيحية، المؤسسات التعليمية، مراكز الدراسات وجمع المعلومات) ...

وفي خضمّ هذا الانتشار الاقتصادي والفكري للاستعمار شرعت الوكالات الغربية الأولى (هافاس الفرنسية، حاليا فرانس برس ورويتر) في انشاء شبكتها الإعلامية في المناطق المستعمرة.

ونستطيع أن نقول في الخلاصة أن هذه الظروف الاستعمارية التي سبقت نشأة الوكالات و واكبت خطواتها الأولى تمثل عنصرا هاما ترتكز عليه الاتهامات الموجّهة للوكالات العالمية المتمركزة في أوروبا الغربية.

وأخطر من هذا الاتهام، الرأي الذي يقول إنه بحكم هذا التاريخ الاستعماري فإن الوكالات العالمية لا يمكنها ان تتحرّر بسرعة من العقلية الاستعمارية.

وهذا النقد هو في الحقيقة موجّه إلى كل مؤسسات الغرب سياسية كانت أو اقتصادية أو فكرية وقياداته من قبل مفكري العالم الثالث. أنه فعلا من الصعب على مؤسسات وعلى ساسة تعوّدوا على نمط من السلوك أن يغيروا هذا السلوك في اتجاه اكتشاف واقع العالم الثالث الجديد وتطلعاته.

صورة العالم الثالث المشوهة

لذا لايمكن أن نتحدث عن النقد الموجّه للوكالات العالمية من دون هذه النظرة الشاملة لما يسمى بحركة التحرير العالمية التي افرزت من بين افرازاتها وعي العالم الثالث بخاصياته فنشأت عن ذلك حركة عدم الانحياز وتجاوزت ردة الفعل هذا المستوى الديبلوماسي والسياسي إلى المجال الاقتصادي فطرح موضوع حق الشعوب في السيطرة على ثرواتها.

و في هذا الاتجاه وجهت اتهامات خطيرة للشركات المتعددة الجنسيات و هي عبارة عن مجموعة من الشركات العملاقة التي تسيطر على ثروات العديد من البلدان و التي تتجاوز قوّتها قوة العديد من الدول الضعيفة. و حاولت مجموعة من الدول تملك ثروة واحدة مثل البترول تنظيم نفسها على المستوى الدولي حتى تجابه جماعيا مصاعب السوق العالمية و نذكر على سبيل المثال كتجربة ناجحة اجماليا المنظمة العالمية للبلدان المصدرة للبترول "أوبيك". 

مثل هذا السلوك الجماعي من دول العالم الثالث سنجده أيضا على الساحة الإعلامية و هو يدخل في نطاق استراتيجية عالمية تحاول دول العالم الثالث بصعوبة وضع ملامحها و تجسّد هذا المسعى في مطلب أساسي أصبح معروفا حاليا و هو إرساء نظام اقتصادي عالمي جديد فمجال الاعلام ليس بمعزل عن المجالات الأخرى و علينا أن نتجاوز هذه المرحلة العامة من النقد المبدئي الموجّه للوكالات العالمية بحكم أنها مؤسسات غربية مرتبطة منذ نشأتها بالاستعمار، لنتعرّض للبعد المهني للجدل القائم حاليا في مجال الاعلام.

فقد ركّزت وفود العالم الثالث في العديد من المناسبات الدولية، على ما يسمّى بالصورة التي تقدّمها الوكالات الغربية عن العالم الثالث و تتمثل هذه الصورة التي يعتبرها البعض مشوّهة في تقديم العالم الثالث و كأنه يعيش يوميا في دوامة الانقلابات المتتالية و الانتفاضات الدموية. أما كل طلبات العالم الثالث و محاولاته للسيطرة على ثرواته فهي تعتبر موجّهة ضد الغرب اذا لا تعتني الصحافة الغربية الا بنتائج هذه المحاولات على المستهلك الغربي و كلنا يعلم أن الأزمة الحالية التي يعيشها الغرب و كثيرا ما قدّم العرب كمسؤولين عنها لأنهم يريدون بيع بترولهم بأسعار مرتفعة حسبما يقوله الغرب. فبينما يتحدّث مصدرو البترول عن تعديل أسعار البترول حتى تحافظ على قيمتها الحقيقية أمام ارتفاع المواد الصناعية التي تستورد من الغرب، تتحدث الصحافة الغربية عن ارتفاع سيثقل كاهل موازين المدفوعات في الدول الغربية.

ويتساءل أهل الاختصاص في العالم الثالث في مجال الاعلام لماذا لا تعتني الصحافة الغربية بمشاكل العالم الثالث العميقة مثل الفلاحة والصحة والمجهودات المبذولة للحد من هذه المشاكل.

فبالعالم الثالث سدود تبني وجامعات تنشأ وأراض فلاحية توضع فيها قنوات الري للرفع من الإنتاج وحملات لمحاربة الامية وهي أعمال قد لا تجلب بعض القراء، ولكنها مصيرية وتغّير في العمق بنية مجتمعات العالم الثالث أكثر من غيرها مثل الانقلابات النصف شهرية والسلوك الشائن لبعض القادة.

ويواصل أهل الاختصاص تحليلهم في هذا الاتجاه فيقولون إننا نعترف أن العالم الثالث بركان اجتماعي وسياسي وهذه هي الناحية التي تجلب انظار مراسلي الوكالات... ولكن لماذا لا تحدد المسؤوليات؟ أليس الغرب مسؤولا بدرجة كبيرة عن الوضع الحالي بالعالم الثالث؟ فهو مسؤول بحكم استغلاله الاستعماري الذي تواصل قرونا ومكّنه من تحقيق نموّ سريع وسهل (خامات متوفرة وبأسعار بخسة) وهو مسؤول أيضا اليوم إذ لا يريد قبول تغيّر هيكل الاقتصاد الدولي. فعندما تباع منتوجات العالم الثالث الفلاحية بأسعار بخمسة فمن البديهي ان اهل الريف الآسيويين والأفريقيين سيحرمون من مردود عرق جبينهم.

 

اليونسكو حلبة الصراع الدولي في مجال الاعلام

هذا بالنسبة للحجج التي يقدّمها العالم الثالث فما هو رد الوكالات العالمية؟ تتهم الوكالات العالمية بدورها، أساسا رجال السياسية في العالم الثالث وتقول انهم يخلطون بين الاعلام والدّعاية. فحسب المدرسة الكلاسيكية الغربية في الصحافة فانه من الطبيعي ان لا يعلن عن القطار الذي يصل في الوقت المحدد له الى المحطة، اما إذا تأخّر القطار فمن واجب الصحفي ان يتحدث عن ذلك لجمهوره كذلك يقول الصحافيون عن الوكالات العالمية من الطبيعي ان يحاول كل نظام مدّ شعبه بالمدارس وبقنوات الري وبالمصانع الخ .... اما إذا انتشرت مجاعة او تغيّر حكم بطريقة غير شرعية فيعتبرون ان عليهم ان يسجلوا هذه الظاهرة  و اعلام جمهورهم بهذه الاحداث ... السياسية والاجتماعية.

أكثر من هذا يعتبر صحفيو الوكالات العالمية وخاصة مراسلوهم في مختلف عواصم الدنيا ان لهم دورا هاما في دول العالم الثالث اذ هم يستطيعون نشر أخبار لا يمكن  لصحفيي العالم الثالث نشرها عن بلدهم . وفعلا فان نظاما معينا يستطيع ان يضع أي صحفي ينتمي الى بلده في السجن ولكن يصعب عليه عادة سجن مراسل وكالة انباء اجنبية وعادة يطرد المراسل إذا ما اقلق السّلطة ويعوّض بزميل أخر قد يطرد بدوره بعد مدة. هذا طبعا بصفة عامة ولئن كانت هناك حالات سجن وحتى تصفية جسدية ذهب ضحيتها مراسلو بعض الوكالات. هذه بصفة مبسّطة مجموعة من محاور الجدل حول الاعلام والذي تلعب فيه الوكالات بحكم وظيفتها ووزنها في تبادل المعلومات على المستوى الدولي.

و نستطيع ان نقول بصفة مجملة ان هذا النقاش كثيرا ما احتدّ و اخذ صراحه لغة تبادل اتهامات و لكن الدّور الإيجابي الذي لعبته اليونسكو مكّن مختلف الأطراف من التقابل في العديد من المرات في ندوات إقليمية و دولية على مستوى رجال القرار السياسي او على مستوى أخصائيين او صحفيين و قد مكنت هذه اللقاءات من تجاوز الاندفاع الأول و بلورة الأفكار و تسجيل نقاط الاختلاف و بعض نقاط الاتفاق و ان كانت محدودة.  و مثلما لعبت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورا في حلقة الصراع الدولي في المجال الدبلوماسي و ندوة الأمم المتحدة للتجارة و التنمية و غيرها من المنظمات المختلفة دورا في حلبة الصراع الاقتصادي و العالمي، فان منظمة الأمم المتحدة للتربية و العلوم و الثقافة ( اليونسكو ) لعبت دور حلبة الصراع في مجال الاعلام .

ووجدت دول العالم الثالث النشيطة في هذا المجال في اليونسكو إطار عمل مكّنها من بلورة افكارها، وكثيرا ما احرجت بصفة جدّية وفود الدولة الغربية حتى ان الصحافة الغربية كثيرا ما اتّهمت اليونسكو بالانحياز الى العالم الثالث، وتبنّي مطالبة على حساب دول الغرب.

لتجسيد هذا الدور الذي لعبته وتواصل تأديته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في هذا المجال نذكر انشاء لجنة دولية لدراسة مشاكل الاعلام على إثر الندوة التاسعة عشرة لليونسكو. التي انعقدت سنة 1976م. بنيروبي، عاصمة كينيا، برئاسة ماك برايد الوزير الأيرلندي السابق. وجمعت هذه اللجنة خمسة عشر خبيرا من مختلف اقطار العالم يمثلون مجموعات ايديولوجية مختلفة، من بينها تونس ومصر. ووضعت اللجنة التي اشتهرت باسم رئيسها ماك برايد تقريرا ثمرة عمل متواصل دام عدة سنوات نشر سنة 1980 في كتاب تحت عنوان، أصوات متعددة، عالم واحد، الاتصال و المجتمع اليوم وغدا، باللغة الإنجليزية والفرنسية ويعتبر هذا التقرير مرجعا هاما يقدّم العديد من المعلومات السياسية حول الاعلام في العالم ويطرح اهم مواضيع النقاش الدولي المتعلق بالأعلام.

الحد من السيطرة الغربية بالاعتماد على النفس

يصعب في الحقيقية توقيت اهم مراحل هذا النقاش حول مشاكل الاعلام و لكن يمكن ان نقول انه منبثق من الاطار العام لطلبات العالم الثالث السياسية و الاقتصادية و ان ذكرت بصفة محددة منذ سنوات عديدة الا انها تبلورت بصفة جلية و أصبحت ملفا ضخما مستقلا في اللقاءات الدولية خلال عشرية السبعينات.

لم تكتف دول العالم الثالث بالمستوى الجدالي في صراعها مع الاحتكارات الدولية للإعلام و لكنها دخلت بصفة محتشمة في تجارب محدودة و إيجابية بقصد مجابهة سيطرة الوكالات العالمية و الحد منها و تنطلق هذه التجارب من مبدأ الاعتماد على النفس و التركيز على القوة الذاتية لدول العالم الثالث و توحيد الإمكانيات المادية و البشرية و المحدودة و المشتقة من مجموعة من الدول تربط بينها مصالح سياسية او اقتصادية أولها علاقات اجتماعية متينة بحكم الجوار و التاريخ,

 و أدّت هذه المحاولات ببعض الوكالات الى توحيد مجهوداتها حتى تتمكّن من تجميع اخبارها و نشرها على نطاق أوسع مثلما هو الحال بالنسبة لتجربة مجمع و كالات دول عدم الانحياز  الذي بدأ في العمل سنة 1975 او الى خلق وكالة مشتركة بين مجموعة من وكالات الخليج ووكالة انباء بلدان الكاريب بأمريكا  الوسطى التي أنشئت بمساعدة اليونسكو سنة 1975. ويصعب في الحقيقة الحكم على مثل هذه التجارب وهي في خطواتها الأولى ولكن يمكن ان نقول انها بالرّغم من الصعوبات العديدة المادّية والنفسية والسياسية التي تلاقيها فأنها تمثل الطريق السليم الذي يمكن السير فيه لمحاولة الحدّ من السيطرة الإعلامية الغربية.

 

الجزء الأول و الثاني: 

الوكالة الصحفية او صحافة الخفاء 

خمس وكالات صحفية عالمية تسيطرعلى الساحة الإعلامية الدولية

مواضيع ذات علاقة:

مجمّع وكالات دول عدم الإنحياز: حصيلة و آفاق

L’Information : Domination et cadre d’action