المهدي الجندوبي، الجزيرة (يومية سعودية)، 23-11-1994 ص:8، عدد 8091.
لم اكن اعلم عندما قررت التخلي عن سيارتي بعد اكثر من عشر سنوات من السياقة انني ساعود الى درس الفلسفة في باب الانسان والآلة.
عندما أشار استاذنا الى هذا الموضوع في آخر سنة من تعليمنا الثانوي بقيت
المسألة مجرّدة في ذهني ولم احتفظ الاّ بمقولة الانسان يصنع الآلة ويخضعها الى
ارادته. اما ان تتحول هذه الآلة من مجرّد أداة خارجية وواسطة بين الانسان وأهدافه
الى جزء من ذاته يحدّد علاقاته مع الزمان والمكان وينخرط بصفة شبه كلية مع قدراته الجسمية الذاتية ويوجّه
علاقته بالآخرين فهذا ما اكتشفته منذ مدّة قصيرة عندما قرّرت التخلي عن سيارتي او
بالأحرى عندما أصرّت على ازعاجي الى درجة انني قررت التخلّي عنها.
لا يمكنك الاّ ان تشعر بالغربة بدون السيارة حتى وان كنت في مدينة تعرفها
جيدا، انك تعرفها مثل جيبك وتعرف تقدير الوقت اللاّزم للانتقال من مكان الى مكان
وتعرف الأماكن التي يمكن ان تمرّ بها ومعك سيارتك اما عندما تكون مترجّلا او تريد
استعمال حافلات النقل العمومية التي قد تكون جرّبتها منذ سنوات عديدة فانك تكتشف
ان مقاييس الزمان ومسالك المكان مختلفة.
لقد وفّرت لك السيارة قدرة سرعان ما تحوّلت في عقلك الباطن بصفة وهمية الى
قدرتك الجسمية كأنك عندما تفارق سيارتك بعد طول عشرة تكتشف هول ما اصابك كأنك بترت
من جزء من ذاتك. ولا يبقى لك إلا ان تتعوّد على المقاييس الجديدة وتتعامل مع
الزمان والمكان حسب قدات جسمك وتسهيلات وسائل النقل العمومية.
وبينما انت تتعلّم أرقام خطوط الحافلات واتجاهاتها او قل تتذكّر ذلك لانك
استعملتها طوال فترة الدراسة وتقنع نفسك بقبول الوقت الضائع في انتظار الحافلات
مقابل الوقت الضائع في ورشة الميكانيكي فانك تكتشف انك عدت الى الآخرين او قل الى
صنف من أبناء بلدك قد ساهمت السيارة في ابتعادك عنه، تعود الى هؤلاء الذين ينتظرون
الى حدّ الضّجر الحافلات العمومية ويتزاحمون على الصعود لاحتلال المقاعد وتجنّب
السفر وقوفا بعد يوم من العمل ولا يتردد بعضهم للتخلي عن مقعده الذي ناله بعد عسر وجهد لصالح شيخ او امرأة ومواصلة السفر
واقفا.
وتسمع ان اردت ذلك ام لم ترد تعليقاتهم على الاحداث الرياضية واستعداداتهم
للاعياد الدينية وامالهم قبيل التصريح بنتائج الامتحانات وشكواهم من اقتراب مصاريف
العودة المدرسية.
انك تعود الى نبض الشعب. فارقوا سياراتكم ولو لاسبوع ولا تلجؤوا لسيارات
الأقارب والأصدقاء والى سيارات الأجرة. فانكم ستعودون الى ذواتكم والى الاخرين.
فارقت سيارتي...فعدت الى الفلسفة، المهدي الجندوبي، الجزيرة (يومية سعودية)، الإربعاء 20 جمادى الآخرة 1415 هج، الموافق 23 نوفمبر 1994 م، العدد 8091، ص:8.
موضوع ذو صلة: