باب نت 27 جويلة 2021
المهدي الجندوبي
انتصر الرئيس قيس سعيد عندما تحولت قراراته المعلنة عبر شريط فيديو الى زغردات و مهرجان منبهات سيارات و احتفالات شعبية ليلية عفوية عمت تراب الجمهورية ذكرتني ببعض ما شاهدته بعيني يوم أعلن الرئيس بورقيبة تراجعه على قرار مضاعفة سعر الخبز سنة 1984 او ما رأيناه في 14 جانفي 2011 عندما تم الاعلان الرسمي عن "هروب" الرئيس بن علي. و فشلت النهضة عندما وقف الأستاذ راشد الغنوشي في مشهد تراجيدي أمام الباب الحديدي لمجلس النواب و منعته قوة الدولة من الالتحاق بمكتبه و هو الشخصية الثانية في الدولة.
الانتصار مفرح و هو تتويج
مستحق لجهد سابق، لكنه يفتح أبواب تحديات جديدة و مسؤولية أكبر و ما أحوج المنتصر
الى الحكمة ، و ما أحوج الخاسر الى اﻟﺬكاء ليفهم أسباب الخسارة و يستوعب الدرس لتتحول
خسارة اليوم الى انتصار الغد.
الغرور هو العدو الأول لكل منتصر
انتصر الرئيس قيس سعيد بعد أقل من سنتين عندما وصل الى السلطة بسند
شعبي عريض و بدعم من النهضة و العديد من الأحزاب الأخرى ووجد نفسه في قصر قرطاج
يحمل شرعية ساحقة وعجز عن الفعل تحت تكبيل نظام سياسي معقد وزع السلطة لحماية تونس
من مخاطر الحكم الفردي لكنه حرمها من سلطة ناجعة و ناجزة، فأصبح كل هم المسؤولين
بناء أداة الحكم و تأثيثها و ترميمها و طالت المناقشات و المباحثات و التسميات و
الاقالات و صراع الصلاحيات، كأنك في لعبة شطرنج لا تنتهي و ما تبقى من الوقت
يواجهون به مشاكل التنمية من بطالة و مديونية و شباب و فلاحة و ثقافة و غيرها من
المشاكل الجوهرية و الحارقة. ضاع الأهم في تعقيدات ما هو أقل أهمية.
اليوم سيكون الرئيس في الخط الأول و المشاكل التي سيواجهها لا تحصى و
لا تعد و أولها الغرور و أخطر أشكال الغرور هو الغرور الفكري اﻟﺬي يجعلنا نتصور أن أفكارنا هي أفضل الأفكار و
حلولنا أنجع الحلول و كم زعيم في التاريخ هزمته دوامة الغرور بعد
انتصارات عديدة.
المهمة الصعبة التي تنتظر الرئيس اليوم هي قدرته على تجميع كل
العاملين في حقل صناعة اﻟﺬكاء الجماعي و هم
آلاف من التونسيين يعملون بصمت و تواضع في الجامعات و الوزارات و المؤسسات
العمومية و غيرها من المنشآت و صهر كل هذه الجهود في رؤية تأليفية جامعة. و الكثير منهم يرون أن تجاربهم و
أفكارهم و اقتراحاتهم لا تجد دائما الصدى الكافي عند أصحاب القرار اﻟﺬي يغلب عليهم الهاجس السياسي. و أظنني لم أسمع ﻣﻨﺫ قرابة سنتين أن سيادة الرئيس اجتمع و ناقش كبار
أساتذة الاقتصاد أو القانون أو خبراء الشباب و التربية و غيرها من
المجالات و للأمانة أﺫكر أن الرئيس المنصف المرزوقي اثناء رئاسته، نظم سلسلة من
الندوات المتخصصة في دار الضيافة بقرطاج جمع فيها تباعا الاقتصاديين و خبراء الاعلام و غيرهم كل في قطاعه.
الفيديوهات لا تحمل رؤية
هناك حديث عن رؤية الرئيس وصلتنا عبر العديد من الفيديوهات لكن بعد
قرابة سنتين لم تعرض وثيقة مكتوبة مبلورة تسمح لكل من يرغب أن يفهم مباشرة أفكار
الرئيس الذي انتخبه و يناقشها بهدوء و عمق و الموقع الرسمي للرئاسة لا يعرض وثيقة
واحدة مكتوبة يمكن ان تكون قاعدة جدية و مسؤولة للنقاش. إن من واجبات المسؤولين
توضيح أفكارهم و تخصيص الوقت الكافي لشرحها.
كم مرة يقول سيادة الرئيس عن خصومه "ما حبوش يفهمو..." و
كم مرة أسمع فيديوهات تنشرها الرئاسة و أجتهد في فهمها و لا أفهمها الى درجة أن
الشك يدخلني فألوم نفسي على التقصير و أحاول تدوين الفيديو و لا أفهم ثم أطمئن
عندما أسمع أن غيري لم يفهم أيضا ما يريده سيادة الرئيس، خاصة و أن كل الخطب لم
يقع استنساخها لتكون متاحة للقراءة المتأنية و هي عادة كانت موجودة في الرئاسة و
لا أعلم لماذا تم التخلي عنها، فالنص الشفوي المسجل على فيديو و إن كان سهل الانتشار لكنه سبب في كثير من
الغموض.
الوعي بأخطاء الماضي هي التي ستعزز القدرة على مواجهة التحديات
الجديدة التي يفتحها الانتصار. "مشاكل النصر" كانت من ضمن قاموس الرئيس
بورقيبة عندما واجه إضرابات الطلبة و قال لو لم نفتك الاستقلال و لو لم ننشر
التعليم و لو لم نشيد الجامعات لما كان عندنا شباب يحتج و يضرب، أي ان كل انتصار
جديد يفتح مشكلة جديدة.
زغردة نساء تونس هزمت النهضة
إذا كان الرئيس المنتصر
بحاجة الى الحكمة، فان النهضة الحزب المنهزم بحاجة الى الذكاء لأن الفشل هو أستاﺫ
يعلمنا أن الحياة مهما قست فهي دائمة التحول و فشل اليوم يمكن أن يصبح انتصار
الغد. انهزمت النهضة اليوم لكنها انتصرت سنة 2011 بعد المنافي و السجون فهل فشل
اليوم يمحي كل مكاسب انتصار الأمس؟
كيف تقيم هذه الفرصة التاريخية الاستثنائية التي نالتها النهضة ان
تكون الحزب الذي يقود تونس عندما انهار حزب التجمع وريث حزب الدستور، أكبر حزب
عرفته تونس ﻣﻨﺫ 1920 بعد ان سيطر على الحياة العامة على امتداد 90 سنة قبل ان يقع
حله بقرار قضائي بعد الثورة؟
كيف تقيم ﻫﺬا المكسب أن يكون لك مناضلون دخلوا تجربة الحكم بكل
مستوياتها بعد أن بقوا 30 سنة ﻣﻨﺫ تأسيس
الحزب على هامش القرار الاداري و السياسي و كل نشاطهم كان يقتصر على المساجد و
حلقات النقاش الضيقة و المواقع الرقمية بعد انتشارها في مطلع القرن؟ ألم يقل
الأستاﺫ راشد الغنوشي في لقاء شبابي، كنا قبل الثورة نطالب بحقنا في فتح حانوت،
ففتح الله علينا بعد الثورة السوق كاملة.
كيف تقيم مكسب أن تكون النهضة موضوع اهتمام دولي تجاوز حجم تونس
الجيوستراتيجي لتصبح مخبرا عربيا لقضية تشغل الناس من اندونيسا الى موريطانيا: هل
يمكن للإسلام أن يكون منسجما مع الديمقراطية؟
الحكمة التي تحتاجها النهضة ليست فقط لرفع معنويات المناضلين و
الأنصار لكن لتشخيص سليم للأسباب الحقيقية التي أدت الى الفشل حتى لا تغلب المرارة
و الانفعال و يضيق افق الفعل في المستقبل.
فليست قرارات الأستاذ قيس سعيد
هي التي هزمت النهضة، بل هي زغردة النساء و منبهات السيارات التي عمت البلاد
ابتهاجا بخروج النهضة من السلطة. زغردة النساء ليست جزئية فهي حركة في ظاهرها
بسيطة و سطحية لكنها مؤشر انتربولوجي عميق تتحول فيه السياسة من قرار مجرد تناقشه
النخبة و تتصارع حوله، الى سلوك اجتماعي حيوي لا يقل أهمية عن الاصطفاف يوم
الانتخابات لوضع بطاقة التصويت في الصندوق.
عاشت تونس عشرية لعبت فيها النهضة دورا
رئيسيا في الحكم و خارجه و غلب على جميع المتدخلين في الحياة العامة و جلهم تدربوا
على السياسة في معارضة حزب الدستور ثم التجمع الحاكم، هاجس بناء أداة الحكم
الديمقراطي توقيا من منزلقات الحكم الفردي، و من فرط الإنشغال بمن يحكم و كيف يحكم
ضاعت مشاكل يلخصها سؤال بسيط لماﺫا نحكم؟ و ساهمت وسائل الإعلام
في تكريس نظرة تغلب فيها السياسة كأداء اتصالي محظ يكاد يصبح فيه الكلام اﻟﺫي
تحرر بحكم الثورة بعد سنوات من الرقابة، بديلا عن
الفعل و "خفة الروح" بديلا عن البرامج.
و بقيت الأتربة على قارعة الطريق و بقي
معدل 100 الف طفل و مراهق منقطع عن التعليم كل سنة من غير حل و بقيت مؤسسة وحيدة
استشفائية تعالج مدمني المخدرات رغم انتشار الظاهرة و بقيت أحياء في تونس لا توجد
فيها مكتبة عمومية أو دار ثقافة بينما توجد فيها اكثر من صالة للأعراس على ملك
الخواص، و تطول القائمة في كل المشاكل التي يواجهها المواطن يوميا و يتجاهلها
المسؤول المنتخب و الشرعي.
ما أحوج المنتصر للحكمة و ما أحوج المنهزم
للذكاء و ما أحوج تونس الى مسؤولية كل أبنائها ليراوحوا بين الصراع و التعاون لأن
الوطن واحد و الأفكار و الحقائق و المصالح متعددة أما المشاكل فهي "بالبالة". كان الله
في عون الجميع.
المصدر الأصلي:
حكمة
الانتصار و ذكاء الفشل (babnet.net)
ملاحظة: [ تم الاعلان في 25 جولية 2021 ليلا على قرار تفعيل البند 80 من الدستور اﻟﺬي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات استثنائية لمواجهة خطر داهم، و تم تجميد مجلس النواب و اقالة رئيس الحكومة]
مقالات أخرى:
هل أولوية تونس اليوم هي إصلاح جديد لنظام الحكم أم التنمية الإقتصادية و الإجتماعية؟
كيف نصحح اخطاء الماضي و نحتفظ بافضل ما فيه لبناء المستقبل؟
Quand le président Saied écorche l’alchimie des valeurs qu’il incarne.
الفساد السياسي الأعظم: هدر الزمن.
Tunisie : Dirigeants bien élus et mal reçus.
حتّى لا يكون العنف شكلا من السياسة
La “patrie avant le parti” ou mon fils avant mes compagnons de lutte?