المهدي الجندوبي
20 جانفي 2011 (لم ينشر)
إن ما يجري في تونس لم يخطط له أحد و فرض نفسه على الجميع و أول من فوجئ هم
التونسيون بكل فئاتهم و منظماتهم، و لكنه ثمرة اختمار وتراكمات و تضحيات قامت بها
نخبة قليلة على امتداد عشرات السنوات، و من الطبيعي أن يجد الملاحظون أنفسهم أمام
صعوبة في فهم و توقع تسلسل الأحداث.
اندلعت انتفاضة تونس من حادثة
مأساوية عاشها المواطن الشاب، محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجا على الاهانة
التي تعرض اليها عندما صادر أعوان البلدية عربة بيع خضروات و لم يجد من ينصت اليه
عندما تظلّم لدى السّلط و تضامن معه مواطنون تم أيضا تعنيفهم فتحولت هذه المأساة
الفردية إلى حركة احتجاجية فريدة في المقياس السياسي التونسي المعاصر، و أخذت تمتد
من جهة إلى أخرى و تحمل معها مطالب اجتماعية و سياسية و ثقافية و تحوّلت إلى ثورة
عاصفة محرّكها الأول الشباب الغاضب الذي اكتسح الفضاء العام لأول مرّة بهذا الحجم
و بهذا الاستعداد للتضحية و الذكاء في ابتكار وسائل التعبير و المشاركة،منذ عدة
عقود، احتضنتها وأدارتها بحكمة بعض مؤسسات المجتمع المدني مثل نقابة العمال و
المحامين.
تعاملت السلطة بقسوة أمنية و غباء سياسي و تزامن كل هذا مع حكم عزل نفسه
تدريجيا عن كل مؤسسات المجتمع المدني و أبعد حتى أقرب أنصاره كلما شك في ولائهم
الأعمى، و انفرد بإدارة الدولة و لم يولي اهتماما لكل الانتقادات مهما كانت
معتدلة، و أحبط محاولات و آمال كل من كانوا يأملون في إصلاح من داخل المؤسسات و أهمل
ما كان يروج بين الناس من أخبار حول الفساد المالي.
في الأيام الأخيرة من الانتفاضة انهارت الدولة أو كادت و استطاعت المسك
بزمام الأمور في ظروف حرجة، القيادة الوطنية و النزيهة من داخل أجهزة الدولة و على
رأسها رئيس الوزراء و هو من أقطاب النظام و لكن الكل يشهد له بكفاءته و نزاهته و
نظافة اليد بتعاون مع قيادات الجيش الوطني الذي أدار الأزمة بذكاء فائق و التزم
بأداء مهامه الدستورية و رفض المشاركة في طلق النار عل المواطنين العزّل، و رفض
مغامرة تولي السلطة رغم نداء وجّه له من قطب من أقطاب المعارضة و هو يحظى الآن
بثقة الجميع.
يضاف إلى كل هذا درجة من الرفاه الاجتماعي شملت الطبقة الوسطى و فوق الوسطى
و خطط تعليمية أطلقت منذ الاستقلال و تفتح على العالم عن طريق وسائل الإعلام
الحديثة، مع تواجد بطالة مستفحلة في المناطق الداخلية للبلاد و في أوساط الشباب
المتعلم.
قرأت مرة أن الثورة لا تنشا فقط من الفقر و الظلم بل هي في أكثر الأحيان
تنطلق من الأمل. و كان الزعيم بورقيبة محرر تونس من الاستعمار الفرنسي و رئيسها
الأول يقول عندما يجابه صعوبات ناتجة عن إضرابات الطلاب، أنا أجني مشاكل النصر أي
أن الاستقلال و انتشار التعليم ولّد سقفا جديدا من الانتظارات المشروعة و يعود لكل
حاكم أن يفهم طبيعة المرحلة و يجد الإجابة المناسبة.
ما جرى في تونس ثورة شاملة فيها كل ما قيل
في كتب التاريخ الحديث عن الثورات الفرنسية و البلشفية و الإيرانية و ثورة رومانيا
عندما انهار حاكمها سوشيسكو.فيها من أحرق نفسه و من عرّض صدره للرصاص و من دفنت
ابنها و هي تزغرد و من كتب الأغاني و سجن و من رفض من كبار الضباط في الجيش طلق
النار على المواطنين و فيها الطيار الذي رفض الإقلاع بالطائرة قبيل سقوط الرئيس لأنه
علم أن بعض أعضاء الحكم يغادرون البلد.
الدول لا تدوم لأحد. انتهى حكم بن علي و التاريخ وحده سيحكم على ايجابياته
و سلبياته، و لكن تونس تبحث عن أسلوب جديد
في الحكم و تعيش مخاضا صعبا يمكن أن يفتح باب التوتر و القلاقل و الردّة و الندم
على الماضي، كما يمكن أن تمر العاصفة و تحدث نقلة نوعية ديمقراطية أساسها المواطنة و المشاركة في إدارة الحكم و
التنمية العادلة، شريطة أن يلتزم الفرقاء و كل الفاعلين السياسيين سلطة و معارضة و
مجتمعا مدنيا، بالذكاء و المسؤولية و العقلية التوافقية و احترام إرادة الشعب التي
ستفرزها انتخابات نزيهة تخوضها كل القوى السياسية الفعلية و تلتزم باحترام نتائجها
التي ستجسم إرادة الشعب.
و تونس في اشد الحاجة إلى دعم الدول العربية أنظمة و شعوبا، فهي في حاجة إلى
تشغيل أبنائها و في حاجة إلى الأسواق العربية و إلى تمويلات ضخمة لإعادة البناء.
لكل شعب خصوصياته و مراحله التاريخية و من الحمق السياسي الحديث عن عدوى سياسية أو تصدير، فالنموذج التونسي لا يصلح لغيرها.
ملاحظة:نكتب الخواطر و مقالات الراي إعتمادا على مواد إعلامية نعتبرها أحيانا مسلّمات او مؤكّدة و لا ننتبه دائما الى مناقشتها و نكتشف لاحقا بعد تراكم الشهادات للأطراف الفاعلة التي عاشت مباشرة الحدث و ساهمت في صناعته أن ما كنا نعلمه منذ 10 سنوات و اكثر لم يكن سوى معلومات كاذبة او غير دقيقة او هي آراء تعاملنا معها و كأنها وقائع.
مواضيع ذو صلة: