كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


samedi 13 octobre 1990

مهنة الأستاذ الباحث: الى أين؟

 المهدي الجندوبي

 

صدر باقتراح من وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي قرار ينظم علاقة فئة من الأساتذة الجامعيين الذين يمارسون بصفة موازية مهنة المحاماة بالمؤسسة الجامعية. ويحرم هذا النص هذه الفئة من تحمّل كل نوع من أنواع المسؤوليات داخل المؤسسة الجامعية (الرائد الرّسمي عدد 50، جويلية 1990).

ان الرّوح التي أوحت هذا النص لا تفتقر الى الإيجابية لأنها تنطلق من مبدأ التفرغ ولكن اقتصار هذا النص على فئة محدودة من الأساتذة، افرغه من   إيجابيته وحوّله الى نص يعالج بصفة ظرفية مشكلة أهم وأعم وهي الإشكال الذي أصبحت تمثله ممارسة مهنة الأستاذ الباحث و وجوب مراجعة النصوص المحدّدة لمهام الأساتذة الجامعيين بمختلف أصنافهم وطرق انتقالهم من صنف الى صنف والحاجة الى إرساء تقاليد عمل جديدة تقترب من التقاليد الدولية الجارية في الجامعات الأخرى. 


 

الشعور بالضيم والإحباط منتشر عند أكثر الأساتذة عطاء

 ينظّم القانوني الأساسي لأساتذة التعليم العالي (1982) مهام كل صنف من أصناف التعليم العالي الأربعة ويحدد عدد ساعات الدرس التي تتراوح حسب طبيعتها (دروس نظرية، أشغال مسيرة واشغال تطبيقية) وحسب أصناف الأساتذة من 4 ساعات ونصف دروس نظرية للأستاذ والأستاذ المحاضر الى 9 ساعات أشغال مسيّرة أو 12 ساعة أشغال تطبيقية بالنسبة للمساعد.

وإذا كان القانون الأساسي دقيقا في ذكر عدد ساعات الدّرس، فقد بقي مبهما في تعريف بقية مهام الأستاذ الجامعي وقد نتج عن ذلك تقصير الإدارة في تقدير هذا الجهد وإعطائه القيمة الازمة وبقي انجاز مختلف الاعمال التربوية والعلمية الموازية لألقاء الدروس، شديدة الارتباط بتقاليد العمل وبالرغبة الشخصية لكل أستاذ وبدرجة نجاح العمداء والمديرين في توفير الحوافز المعنوية اللازمة وغيرها من المتغيرات.

ويشعر الأساتذة، كلّما تقدموا في السن بكثير من الضيم عندما يكتشفون ان هذا الجهد اليومي الغزير الذي يقومون به مثل تأطيرالطلبة خارج الدرس والاشراف على بحوثهم والمشاركة في لجان مناقشة الرسائل الجامعية، واعداد التقارير اللازمة لتحوير البرامج ومتابعة مختلف الملفات المتعلقة بتعاون المؤسسة الجامعية مع مؤسسات مماثلة داخل الوطن وخارجه وانتاج الوثائق وانجاز البحوث وغيرها من الأنشطة المتنوعة، لا يزن دائما الوزن الكافي في ارتقائهم في السلّم الوظيفي.

أن غموض القانون الأساسي وغياب تقاليد عمل عصرية (وكل ما أقوله يقتصر على مؤسسات العلوم الإنسانية والاجتماعية ولا يشمل مؤسسات العلوم والطب والهندسة التي طورت ممارسات أكثرإيجابية) والشعور بالإحباط الذي يساور عددا مرتفعا من الأساتذة من مختلف الاعمار والاختصاصات والأصناف والمؤسسات، يجعل هذه المهنة النبيلة في أزمة حقيقية لا يمكن مواصلة اخفائها أو معالجتها بقرارات جزئية.

التفرغ الفعلي على منوال أساتذة الطب

وقد بادرت بعض الأطراف الجامعية وخاصة في الأوساط النقابية بدقّ ناقوس الخطر وطالبت سلطة الاشراف منذ عدة سنوات بفتح حوار حول العمل في الحقل الجامعي ومصطلح ادخلته نقابة التعليم العالي

والبحث العلمي قصد ابراز شمولية مهام الأستاذ الباحث وعدم اقتصارها على القاء الدرس.

وذهب الكاتب العام لنقابة الأساتذة والأساتذة المحاضرين في تصريح صحفي الى التعبير عن استعداده لإمضاء اتفاق مع سلطة الاشراف يحدد عمل الجامعي على أساس أربعين ساعة تقسّم الى دروس وتأطير وبحوث وغيرها من الأنشطة التقليدية التي يجب أن يمارسها في كل دول العالم الأستاذ الجامعي.

أن هذه الأصوات الجريئة لم تجد عند سلطة الاشراف ولا داخل المهنة الاهتمام اللازم مما جعل الأوضاع تزداد تدهورا. ولا اراني ابالغ إذا قلت ان هذه المهنة هي بصدد التحوّل عند عدد متنام من الجامعيين الى عمل او اهتمام ثانوي إذ أصبح عدد محيّر من الجامعيين يجد فرص تنمية قدراته الفكرية وتوازنه الشخصي وضمان مقدرته الشرائية، خارج المؤسسة الجامعية. ومن الظلم ان يعتبر ان صنف الأساتذة المحامين هو وحده الذي يمارس هذا النوع من عدم التفرّغ. وحتى الذين لا تربطهم التزامات مع مؤسسات وطنية خاصة أو شبه عمومية أو أجنبية فان الكثيرين منهم هم بصفة فعلية غير متفرغين يقضون أكثر وقتهم خارج المؤسسة الجامعية.

ولا يجب أن يفهم من كلامي أنى أطالب بالاعتكاف بالمؤسسات الجامعية وقطع كل القنوات مع المحيط. أن تفتّح الجامعي على قطاعات الإنتاج التي يرتبط بها تخصصه عمل أساسي وكذلك تفتّح الجامعي على الحياة المدينة بمختلف أوجهها ومساهمته كمثقف ناقد كلما استدعت الظروف ذلك. ويتمثل الخطر في ان التفتّح مثلما يمارس في بعض الأحيان هو شكل من أشكال هجرة المؤسسة الجامعية. ولنا في تونس نموذج إيجابي يمكن ان نستمد منه بعض الدروس وهو نموذج أساتذة الطب الذين يقضّون كامل وقت عملهم بين الكلية والمستشفى وهو شكل من أشكال التكامل بين الجامعة والمؤسسات الوطنية، إضافة الى التفرغ الكامل والفعلي لهذا الصنف من الأساتذة.

أن هذه اللوحة القاتمة التي رسمتها والتي ضخّمت لا محالة من السلبيات وقصّرت في ذكر الإيجابيات لا يجب أن تنسي كل من سيقرأ هذا النص من غير الجامعيين أن لهذه المهنة نحبة تربوية وعلمية فعلية متكونة من أساتذة باحثين اسسوا هيكليا وبيداغوجيا وعلميا الجامعة ومختلف مؤسساتها وخصصوا الكثير من وقتهم لأنشاء تقاليد عمل وانجاز بحوث ونشر كتب وساهموا مساهمة راقية في الحياة الفكرية والمدنية الوطنية والدولية. ولكن أكثر هذه الوجوه عطاء لم تجد دائما الجزاء المادي والمعنوي وقد وقع تهميش بعضهم نتيجة استقلاليته الفكرية ولم تعهد لهم مسؤوليات قيادية، وبدأ منذ سنوات بعض هؤلاء الإباء المؤسسين يغادرون الجامعة وهذه المؤسسة عاجزة عن أن توفر لكب من يستحق ذلك الاعتراف بالجميل. هذه بعض مشاغل أستاذ مساعد أنهي العقد الأول من حياته المهنية، أرجو أن تجد صدرا رحبا عند سلطة الاشراف ومختلف حلقات القرار في الجامعة وعند بقية الزملاء.