راي اليوم 9-11-2014
د.المهدي الجندوبي :
يكتشف طلبة الصحافة في كل الجامعات في دروسهم الأولى تعريفا للخبر يتمثل في
الإجابة على الأسئلة الستة التي تعرف بالأسئلة الصحفية المرجعية و يتصدّر هذه
القائمة سؤال من؟ أي من قال ماذا؟ أو من فعل ماذا؟ و هو ما درج أيضا على تسميته
الأطراف الفاعلة التي صنعت الحدث أو شاركت فيه سواء كانت شخصيات أو مؤسسات بمختلف
أصنافها. و يضاف إلى ذلك باب مصادر الخبر الذي يجعل من هذه الأطراف الفاعلة مصدرا
يسمح باستكمال معلومة أو التأكد منها حتى و إن لم تكن صانعة للحدث.
فالأطراف الفاعلة في الحياة العامة من مناضلين و ناشطين و مسؤولين في مختلف
المستويات و غيرهم من الشخصيات النقابية و الأدبية و الفنية و الاقتصادية هي مادة
أولى في الأخبار و فرص لقائها و التعامل معها جزء رئيسي من عمل الصحفيين الحرفيين.
و تشهد المهنة الصحفية في علاقتها مع الأطراف الفاعلة و بصفة أخص أصحاب القرار
السياسي منهم، تحوّلات على المستوى الدولي تنعكس على طريقة الأداء المهني محليا
هذا إضافة إلى التحولات ذات الطابع المحلي المرتبط بالمرحلة التاريخية التي تمرّ
بها تونس حاليا.
التلفزيون ثم الشبكات الاجتماعية غيّرت الفعل السياسي دوليا.
يتمّ الفعل السياسي بصفة طبيعية في الواقع في الفضاء الإنساني و الاجتماعي في
كواليس البرلمان و أروقة الوزارات و الساحات العامة أثناء الإضرابات و المهرجانات
السياسية و غيرها من المجالات التي تعوّد السياسيون على التحرّك فيها للاتصال المباشر
بالمواطنين و تشكّل بهذه الطريقة نظام سياسي ثنائي متكوّن من طرفين رئيسيين الفاعل
في الحياة العامة و المواطن و تمثل في المجتمعات الديمقراطية المستقرة نسبيا،
الانتخابات ذروة هذا التفاعل المباشر بين طرفي المعادلة السياسية التقليدية.
يلعب الصحفي في هذه المنظومة دور الملاحظ الذي يعلن الحياد فيقوم بمتابعة
الأنشطة السياسية و يحضر الفعاليات لنقل أقوال و أفعال الأطراف الفاعلة و يضمن عن
طريق المنتج الإخباري و عن طريق وسائل الإعلام فرص نشر واسعة لمختلف هذه الأنشطة
التي أنجزتها الأطراف الفاعلة المتدخّلة في الحياة العامة.
مع انتشار التلفزيون و فرضه أساليب عمل جديدة شملت بعد ذلك بأقل حدة بقية
وسائل الإعلام لم يعد الفعل السياسي ينشأ بصفة طبيعية في المجتمع و تكتفي بنقله
وسائل الإعلام و لكن و سائل الإعلام أصبحت الفضاء الأصلي للفعل السياسي فلم يعد
الفاعل السياسي ينشط بين الناس و تغطى أقواله و أفعاله و لكن أصبح يقول و يفعل في
الفضاءات الإعلامية التي تضمن له وصول صورته و رسائله إلى المواطن المشاهد و غدت
وسائل الإعلام و كأنها فضاء بديل للفعل السياسي عن المجتمع.
و هكذا تحوّل الصحفي و من ورائه الجهاز الإعلامي إلى شريك ثالث في المنظومة
السياسية التي كانت ترتكز على طرفي المعادلة السياسية التقليدية أي الفاعل السياسي
و المواطن و فرضت وسائل الإعلام تدريجيا على الفاعلين بحكم الاعتبارات التقنية
المتعلقة بتسجيل البرامج أو بحكم توقّعها لرغبات و أفضليات الجمهور أو بحكم أساليب
العمل المهنية، سلوكيات و ضغوطات و أولويات حوّلتها من مجرّد ملاحظ للشأن العام
إلى متدخل يساهم في تنشيط الحياة السياسية و يحدد مع الأطراف الفاعلة بعض قواعد
الفعل السياسي.
و بينما كان الفاعل السياسي يتوجه مباشرة إلى المواطن أصبحت وسائل الإعلام
تغريه بالتوجه بسهولة نسبية إلى جمهور يتعرّض إلى برامجها و يتشكل حسب أهداف
تجارية تتعلق أساسا بجلب الإشهار (الإعلان) و حسب قواعد الإغراء و شدّ الانتباه و
هذا التطابق الذي يظهر بديهيا بين مفهوم المواطن و مفهوم الجمهور لا يخلو من
إشكالات و يحتاج إلى مناقشة.
التحوّل الدولي الثاني يتمثل في تبعات انتشار تقنيات الاتصال الحديثة و
بصفة أخص الشبكات الاجتماعية التي وضعت حدّا لاحتكار التوزيع الفعلي الذي كانت
تملكه وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحافة المكتوبة و المحطات الإذاعية و
التلفزية بحكم ما تشترطه من إمكانيات مادية و تقنية.
لم تعد المهنة الصحفية قادرة على احتكار الرسالة الإعلامية و أصبح جزء من
الرأي العام يتعرّض مباشرة إلى مادة إعلامية كثيفة و متنوّعة سمحت بتعدد المصادر و
أتاحت فرصا جديدة للتعبير عن الرأي، أعطت حضورا إعلاميا لشخصيات و تيارات و قضايا
و تجارب لم تكن تحظى بمثل هذه المعالجة في وسائل الإعلام التقليدية و كل هذا يمكن
اعتباره مكاسب ديمقراطية في اتجاه تشريك أوسع في دورة الأفكار و المعلومات في
المجتمع.
و من الطبيعي أن تنشأ عن سهولة التوزيع التي تسمح بها وسائل الإعلام
الحديثة قدرة فائقة على ترويج مواد إعلامية منافسة لما تعرضه وسائل الإعلام و
منتجة خارج إطار متطلبات المهنة الصحفية التي تشهد انتشار ظواهر تضع أمامها تحديات
صعبة مثل صحافة المواطنة و الصفحات الاجتماعية التي تعطي لكل طفل صلاحيات رئيس
تحرير.
كيف ستردّ الصحافة المحترفة على هذا السيل من المواد الإعلامية التي تساهم في
صناعة جزء من الرأي العام خارج الأطر المعهودة؟ هل سيتم التمسّك بالمقاييس المهنية
أكثر من أي وقت مضى للتمييز بين الغث و السمين أو على العكس من ذلك ستقع عملية شدّ
إلى الأسفل تجعل وسائل الإعلام أقل حرصا على جودة المادة الإعلامية سعيا وراء
جمهور أوسع يستهلك مادة إعلامية متاحة بأقل جهد و أقل تكلفة؟ هذه بعض أسئلة تشغل
بال المهنيين و تغذي جدلا واسعا دوليا و محليا.
مع هذه التحوّلات على مستوى ممارسة المهنة الصحفية دوليا و التي تنعكس بدورها
على أسلوب الأداء المهني محليا هناك بيئة تونسية تشكلت بحكم تاريخ الصحافة في تونس
المعاصرة و ارتباطها الشديد بمختلف الحقبات التي مر بها النظام السياسي في تونس و
سنكتفي ببعض ملامح الحقبة الأخيرة.
تجديد النخب و الرأس المال الرمزي.
تشهد تونس بعد الثورة ظاهرة عميقة ستتواصل لفترة طويلة نسبيا تتمثل في تجديد
النخب الناتج عن تحطيم احتكار الوصول إلى القيادة و يرافق هذه الظاهرة و إن كانت
تبدو محتشمة للبعض صراع على ما يسمى في علم الاجتماع بالرأس المال الرمزي الذي
يوظّف لتبرير أحقية احتلال مواقع قيادية جديدة و يدعم تغيير موازين القوى لصالح
شخص أو تيار. و يمكن أن يتغذى الرأس المال الرمزي حسب الحالة بمختلف أشكال الوجاهة
الاجتماعية مثل مستوى الشهادات العلمية أو بالكفاءة المهنية التي يعلنها كل واحد
أو بمختلف أشكال الإنتاج الفكري و الفني أو بكل أشكال مسرحة التقوى من لباس و مظهر
خارجي و بغيرها من السلوكيات التي يصعب حصرها لشديد ارتباطها بخصوصيات كل مجتمع أو
شريحة اجتماعية.
و إن كانت هذه الظاهرة وطنية شاملة في مختلف القطاعات فأن تداعياتها أكثر حدّة
في الحقل الثقافي و من ضمنها الحقل الإعلامي.و تأخذ مسالة الموقف من النظام
السابق و مدى المساهمة في النضال ضد الاستبداد على طوال السنوات الماضية أو
المشاركة بشكل أو بآخر في الثورة حجما خاصا في صراع الوجاهة في الحقل الإعلامي و
المقالات المذنّبة و مسالة “القائمة السوداء” للإعلاميين و كل ما حث بها من
ملابسات ليست سوى بعدا من أبعاد صراع النخب في هذا الحقل.
“الأطراف الفاعلة” الرسمية هي أيضا مشغّل لأغلبية الصحفيين:
من الطبيعي في نظام ديمقراطي أن يقع تكليف جزء من الشخصيات التي تشكّل الأطراف
الفاعلة بتحمّل مسؤولية إدارة الشأن العام عندما يحصلون على الأغلبية اللاّزمة و
هكذا لم يعد الصحفيون التونسيون يتعاملون معهم كمواضيع إخبارية أو مصادر فقط و لكن
كنخبة حاكمة لها صلاحيات وضع الخيارات الكبرى في مجال الحريات مع ما ينتج عن ذلك
من وقع مباشر على الحياة اليومية للصحفيين و بصفة أخص في هذه المرحلة التأسيسية و
من هنا نفهم حدّة الجدل و الصراع بين قطاع من الصحفيين و أصحاب القرار حول مسألة
القوانين و الترتيبات و القرارات المتعلّقة بحرية الصحافة و الطباعة و النشر و
كذلك موضوع الضمانات الدستورية لحرية الإعلام و هو جدل تضاعفت حدّته قبل الانتهاء
من وضع دستور 2014.
من ناحية أخرى تشكّل هيكل وسائل الإعلام في تونس منذ عدة عقود على أساس ملكية
الدولة و يتشكّل عموده الفقري من وكالة الأنباء و مؤسسة الإذاعة و التلفزة و شركة
“سنيب” التي تنشر جريدة لابريس و الصحافة و يضاف الى هذه الترسانة التاريخية مؤسسة
دار الصباح التي أصبحت الدولة التونسية بعد الثورة تملكها بأغلبية مرتفعة إضافة
إلى إذاعتين كانت على ملك شخصيات من النظام السابق و هي الآن في وضعية قانونية انتقالية
تحت إشراف قضائي .
و هكذا كل طرف فاعل في الحياة العامة يتحوّل عندما يصبح صاحب قرار على اثر
الانتخاب، من موضوع خبر صحفي إلى عرف و مشغّل مباشر لقطاع عريض من الصحفيين
المهنيين يصل تقريبا الى نسبة تتجاوز 64 في المائة من مجموع الصحفيين بالرجوع الى
إحصائيات تقادمت نسبيا حول الحاملين لبطاقة صحفي محترف الصادرة عن وزارة الاتصال
سنة 2006.
و من هنا نفهم رهان التحديات التي تجابه المهنة الصحفية و الصراعات التي
تمحورت حول توصيات التقرير العام للهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام و الاتصال(أفريل
2012) الذي أهملت الكثير من توصياته و لم يجد آذانا صاغية من أصحاب القرار في
السلطة و في المؤسسات الإعلامية،و الجدل حول مفهوم الإعلام الحكومي و الإعلام
العمومي و كل رهانات التسميات على رأس المؤسسات التي تشرف عليها الدولة و كل ما
أحاط بالمرسوم 116 لسنة2011 الذي يتعلّق بحرّية الاتصال السمعي البصري و بأحداث
هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي و البصري.
التحولات التي تشهدها المهنة الصحفية على المستويين الدولي و المحلّي التي
تعرّضنا إلى جانب منها، تؤدي بها إلى البحث عن أدوار جديدة و أساليب عمل مختلفة و
هي سبب إضافي يعقّد العلاقة بين الصحفيين و بين الأطراف الفاعلة في الحياة العامة
و بصفة أخص نخبة هذه الأطراف التي تصل إلى السلطة مدعومة بشرعية انتخابية و تبحث
عن وسائل إقناع الرأي العام.
هناك حد مقبول من التوتر الناتج عن الاختلاف الطبيعي في الأدوار و يمكن
اعتباره ظاهرة صحيّة إذ من الأفضل لصالح المواطن أن لا تتحوّل العلاقة بين
الصحفيين و الأطراف الفاعلة إلى صداقة مسترابة و لكن من جهة أخرى هناك حدّ أدنى من
التوافق الفكري حول دور و سائل الإعلام و الضمانات اللاّزمة لأداء هذه الوظيفة في
مجتمع يخطو نحو إرساء نظام ديمقراطي.
مؤسسة الإذاعة و التلفزة |
211 |
الإذاعات الجهوية |
129 |
وكالة وات |
167 |
La presse |
70 |
الصحافة |
39 |
الصباح |
31 |
Le temps |
12 |
المجموع |
659 |
النسبة |
64,54 |
مجموع حاملي البطاقة |
1021 |
إحصائيات حول الحاملين لبطاقة صحفي محترف سنة 2006
الإدارة العامة للإعلام، وزارة الاتصال مايو 2006
المصدر الأصلي:
http://www.raialyoum.com/?p=176564
مواضيع ذات صلة:
UNE PRESSE TROP ASSAGIE NE PROSPERE PAS.
من الحدث الاجتماعي إلى الحدث الصحفي
La fonction du discours critique dans les quotidiens tunisiens