كلما أدّبني الدّهر أراني نقص عقلي

و اذا ما زدت علما زادني علما بجهلي

الامام الشافعي


vendredi 7 octobre 1988

صحافة القرّاء....أم صحافة...؟

المهدي الجندوبي

المغرب الجمعة 7 أكتوبر 1988، عدد 121 ص16-17.

الصحافة في تونس صناعة فكرية سجلت اثناء العشرية الأخيرة تحولات هامة تشمل اوجه عديدة منها المحتوى والإخراج الصحفي والصحفيون والمؤسسات والجمهور وتقنيات الطباعة والبث وغيرها من المجالات، وجعلت هذه التحولات الصحافة تحتل موقعا متميزا في اهتمامات الناس سواء كانوا من صنف الحكام او من صنف المحكومين مع اعتبار ما هناك من تفاعل بين هذين الصنفين.

نتعرض في هذه المحاولة الى بعض الامراض المزمنة التي تنخر جسم الصحافة الرّسمية وشبه الرسمية، أي الصحافة التي تموّلها الدولة بصفة مباشرة او غير مباشرة، وهي التي تشغّل اكبر نسبة من الصحفيين المهنيين  (وكالة انباء، إذاعة وتلفزة وجزء من الصحافة المكتوبة ).



ان اخطر تحد واجهته وتواجهه صحافة الدولة هو أن تكون صحافة القراء والمستمعين والمشاهدين وهم قوام الدولة وسندها الحقيقي وهدف خططها التنموية، او ان تكون صحافة الوزراء وغيرهم من مسؤولي الدرجة الثانية والثالثة والرابعة وكل من يمنحهم شرف خدمة الوطن في أجهزة الدولة، أولوية الظهور على صفحات الجرائد.

الاعلام البروتوكولي

صحافة الدولة في خدمة الدولة، هذا ما يقوله المهنيون الذين تعهد لهم مهمّة قيادة زملائهم في قاعات التحرير كلّما وجّه نقد لنوعية تغطيتهم للاحداث الوطنية. إلاّ انهم يعتبرون ان خدمة الدولة هي خدمة رجالها، بل أكثر رجالها وزنا في أجهزة الدولة.

وقد طوّر منذ سنوات رؤساء وامناء التحرير مقياسا خفيا يكيلون به الوزن الفعلي لكل شخصية من شخصيات الدولة فيكيلون طول المقالات وتواترها و عدد الصور و حجمها حسب استنتاجات هذا المقياس. فهذا الوزير يغطّى نشاطه في برقية وآخر في أكثر من برقية وهذا يظهر كل يوم واخر مرتين في الأسبوع او أقل. ومن بديهات القول ان هذا المقياس كثير التحول في اتجاه الصعود والهبوط حسب تخمينات كل رئيس تحرير.

ولا يخفي رؤساء التحرير، وهم عادة من الصحفيين المهرة في احاديثهم الخاصة عدم قبولاهم لهذه المقاييس غير المكتوبة ويعتبرونها منافية لابسط تقاليد العمل الذي يبوّب الخبر حسب أهميته وثرائه وحسب اهتمامات وانتظارات الجمهور. وهكذا تمتلئ نشرات وكالة الانباء والحصص الإخبارية في الإذاعة والتلفزة والجرائد باخبار مطولة وصور تدور عادة حول استقبالات وتحركات وخطب السادة الوزراء وهو الوجه الظاهري  والسطحي لأعمالهم على رأس الدولة.

ويسمّى هذا الشكل من العمل الصحفي الرائج في مختلف الدول الافريقية والعربية، بالاعلام  البروتوكولي، وهو لا يخدم في شيء الدولة ولا حتى رموزها ولا يحمل معلومات مفيدة لكل من اعطى بعضا من وقته وماله لقراءة الجرائد والاستماع الى نشرة الاخبار او مشاهدة شريط الانباء.

الاعلام الأسطوري

ان هذا الشكل من التغطية للاحداث الوطنية هو نتاج سنوات من التفاعل الخفي بين القيادات الصحفية في قطاع صحافة الدولة ورجال السياسة الرسميين ويعتقد المهنيون ان هذه الممارسات مفروضة  عليهم وانهم يتعرضون الى كل اشكال اللوم والضغط  وضياع كرسي المسؤولية، كلما حاولوا تجربة اشكال أخرى من التغطية الصحفية.

وفي الواقع فان قوّة هذه التقاليد المهنية تتمثل أساسا في انها أصبحت شكلا إعلاميا يفرض نفسه بصفة ضمنية على رجال الدولة وعلى الصحفيين. فرجال الدولة تعودوا على هذه الصورة التي تصنعها عنهم صحافة الدولة قيتدخلون بقدر الإمكان للحصول على المزيد من الكلمات والصّور والأفلام حول تحركاتهم وتصريحاتهم واستقبالاتهم واصبح الصحفي سجين الممارسات المهنية التي عوّد بها رجال الدولة.

ان تضخم حضور رجل الدولة في وعي ولا وعي الصحفيين وخاصة قياداتهم في المؤسسات الصحفية أدّى الى تغييب شبه كلي للقارئ والمستمع ووالمشاهد الذي يمثل هدف كل عمل اعلامي ناجح.

وينتج عن ذلك عدم اهتمام الناس بالطبخة الرسمية في إعطاء صورة سليمة وعميقة حول بعض الإنجازات الهامة التي تقوم بها الدولة و عدم مدّ المواطن بكشف صريح حول المشاغل الحقيقية التي تجابه المؤسسات و المواطنين  . وهي مشاغل نجدها بارزة بوضوح  في التقارير الرسمية التي تنجزها مؤسسات الدولة ويعرضها الوزراء  و غيرهم من المسؤولين في جلساتهم المضيقة.

وهكذا تطغى على الاخبار الرسمية و شبه الرسمية مسحة من الإيجابية الساذجة و التفاؤل المفرط الذي يصل الى حد الاعلام الأسطوري و الملحمي الذي يمجّد الإنجازات و يؤدي عادة الى التحفّظ و الشك و اللامبالاة

مراجعة العلاقة بين رجل الدولة و صحفي الدولة

ان مجابهة هذه السلبيات ممكنة اذا توفّرت عند هذا الثنائي المتكوّن من رجل الدولة و صحفي الدولة الرّغبة في إعادة النظر  بشجاعة في الكثير من الأفكار و الممارسات المهنية السائدة  قصد تمكين الصحافة الرسمية  و شبه الرسمية من تحسين نوعية أدائها الإعلامي خدمة للدولة و للمواطن .

ويمكن ان نقدم في هذا الاتجاه  اقتراحات قد يجد فيها المهنيون و رجال الدولة بعض الفائدة :

1)    تنظيم ورشات عمل بين مجموعة من الصحفيين للحديث المعمّق حول نوعية العلاقة بين الجانبين و مناقشة نقدية لنماذج من التغطية الصحفية لنشاطات الوزراء و الوزارات . و يمكن للمركز الافريقي لتدريب الصحفيين و الاتصالين التابع لوزارة الاعلام  ان يحتضن هذه التجربة .

2)    إقرار شهر تجريبي يرفض فيه السادة الوزراء الظهور بصفة مشخصنة على شاشة التلفزيون و على صفحات الجرائد . مما يؤدي بالضرورة  الى ادخال الحيرة المنتجة عند رؤساء  التحرير الذين سيجبرون على الخروج من المسالك المعهودة و على توجيه الصحفيين للبحث عن مواضيع طريفة في كواليس الإدارة و في الشارع و في الريف و في المؤسسات و غيرها من مصادر الاخبار اللاّمتناهية. ان عدد الصحفيين في تونس محدود و تسخّر  نسبة هامة منهم يوميا لتغطية ما اسميناه بالأعلام البروتوكولي  فلنحرر هذه الطافات من هذا العمل و نرى نتيجة ذ لك.

على رجال الدولة ان يقتنعوا ان جانبا من نشاطهم يجب الاّ يغطى لانه يدخل في نطاق العمل العادي الروتيني و ان جانبا من خطبهم لا يجب ان تغطى بأكثر من خبر مقتضب و يعلم المهنيون ان اهم الخطب و اكثرها ثراء يمكن ان تعرض في اقصى  الحالات في خمسمائة كلمة أي ما يقابل عمودا واحدا من جريدة "الصباح " و هم يعلمون أيضا ان القراء ينفرون من النصوص المطوّلة.

3)    الوصول الى قناعة مشتركة تجمع رجال الدولة و صحفيي الدولة تتجاوز مجرد الاعلام البروتوكولي   المسطح و للمهنيين الحق في اعمال خيالهم لاستنباط اشكال جديدة من الممارسات المهنية و تجاوز الممارسات السائدة البالية مع ما يمكن ان ينجز عن ذلك من حيرة و احراج و فشل و نجاح

و يجب الحرص على تمكين الصحفيين من الاتصال المباشر و السّهل بالاف المهندسين و المتصرفين و المديرين و رؤساء المصالح و غيرهم من إطارات الدولة التي تمسك  بصفة فعلية   الملفات  و المعلومات  و على السادة الوزراء  ان يعطوا الملحقين الصحفيين بالوزارات تعليمات واضحة لتمكين مثل هذا الإتصال بين أعوان الوزارات و الصحفيين اذ ان الملحقين قد يلعبون دور الحاجز بين الوزير و الوزارة و الصحفيين  و هذا عكس ما تتطلبه هذه الوظيفة.

و يمكن بعث سجل يدوّن فيه الصحفيون كل أنواع و حالات العراقيل التي تعترضهم اثناء عملية جمع المعلومات و من الأفضل ان تشرف على هذا السّجل لجنة مشتركة تجمع ممثلين عن الوزارات و المؤسسات.

4)    إعادة التفكير في طريقة ممارسة سلطة الاشراف لمهامها و يمكن  بعث هيئة وطنية  تعهد لها مهمة ممارسة صلاحيات الاشراف على صحافة الدولة. 

ان هذه السلبيات و هذه الاقتراحات هي نقطة من كأس مشاغل الصحفيين التي أصبحت تطرح نفسها بإلحاح متصاعد على المهنيين و على أصحاب القرار . و من الواضح ان البديل الإعلامي لصحافة الدولة لن يخرج جاهزا من دماغ مفكّر ولا من تقرير او قرار مهما كانت أهميته و لكنه سيكون نتاج مخاض  عسير و تجارب مخبرية متنوعة يجب ان تتاح فرصة القيام بها لعشرات الصحفيين الذي  يتّقدون حماسا و أفكار لإثراء عملهم.

  مواضيع ذات صلة:

كيف يمكن الارتقاء بالجدل حول "حيادية" مؤسسة الاذاعة و التلفزة

 الصحفيون المهنيون في تونس و الأطراف الفاعلة في الحياة العامة: علاقة تحت ضغط إعادة التشكّل

جدول صدور الجرائد و المجلات الأسبوعية التونسية سنة 2012

بين الصحفي و الخبير

Evaluation critique de la dépêche de l'agence TAP en l'An 2000

UNE PRESSE TROP ASSAGIE NE PROSPERE PAS.

 Journalistes professionnels et journalistes amateurs

LE JOURNALISTE ET LE PAYSAN

La fonction du discours critique dans les quotidiens tunisiens